الجمارك: شريان الإقتصاد اللبناني المعلّق بين الخلافات والفراغ
الجمارك: شريان الإقتصاد اللبناني المعلّق بين الخلافات والفراغ
الجمارك اليوم تختصر مأساة الدولة اللبنانية: مؤسسة يفترض أن تكون رافعة مالية في زمن الإنهيار، لكنها تُدار بالفراغ والتعطيل. وبينما تزداد الحاجة إلى كل دولار يدخل خزينة الدولة، تُترك المداخيل على المرافئ والحدود سائبة، في خدمة التوازنات السياسية والمحسوبيات.
يؤكد مصدر حكومي رفيع يغار على البلد في مجالسه الخاصة أنّ كل يوم يمرّ دون تعيينات في الجمارك يكلّف البلد مليون دولار خسائر على خزينة الدولة أي ٣٦٥ مليون دولار سنوياً كلفة تأخير التعيينات.
في بلدٍ يتهاوى إقتصاديًا ويبحث عن أي موردٍ يعيد إنعاش خزينته، تُترك مديرية الجمارك، وهي إحدى أكثر المؤسسات إنتاجًا للإيرادات، أسيرة الفراغ والخلافات السياسية. لا مجلس أعلى للجمارك، ولا مدير عام أصيل، فيما التعيينات مجمّدة منذ سنوات، وكأنّ تعطيل هذه المؤسسة مقصود ومخطط له.
تُعتبر الجمارك شريانًا أساسيًا للإقتصاد اللبناني. فهي لا تقتصر على جباية الرسوم والضرائب، بل تلعب دورًا حاسمًا في مكافحة التهريب والتهرّب الجمركي، وفي ضبط حركة الإستيراد والتصدير التي تُثقل الميزان التجاري. ومع ذلك، تُترك من دون قيادة فعلية، لتغدو مؤسسة مشلولة في قلب الانهيار المالي.
نصَّ المرسوم الإشتراعي رقم ١٢٣/١٩٥٩ على أنّ المجلس الأعلى للجمارك يتألف من رئيس (شيعي) وعضوين (سني ومسيحي) والمدير العام (ماروني)، وجميعهم يُعيَّنون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناءً على إقتراح وزير المالية. أما مذاهبهم فهي حسب العرف، الإقتراح المنوط بوزير المالية يمنح الكلمة الفصل، أي حق الفيتو، وحالياً هو لوزير حركة أمل. وبما أنّ التعيين يحتاج إلى توافق سياسي كونه يمرّ عبر مجلس الوزراء، يطرح السؤال نفسه: هل الخلاف السياسي داخل الحكومة هو ما يعيق التعيين، أم أنّ الرئيس نبيه بري يفضّل إبقاءها ورقة تفاوض بيده؟
غياب التعيينات ليس تفصيلًا إداريًا، فالمشهد يعكس واقعًا سياسيًا مأزوماً: من جهة، الخلافات بين الرؤساء الثلاثة على الحصص والنفوذ، ومن جهة أخرى، سياسة غير معلنة تقوم على إبقاء الجمارك في حالة شلل، ما يفتح الباب أمام التهريب والصفقات بعيدًا عن الرقابة الرسمية. القوى السياسية تتفاوض على مصلحة الناس، لكن النتيجة تبقى واحدة: مؤسسات مشلولة وخزينة فارغة.
أسماء عديدة طُرحت لمنصب المدير العام ورئيس المجلس الأعلى وأعضائه، بعضها من داخل السلك وبعضها مدعوم سياسيًا، لكن جميعها بقي في الأدراج. فلا إتفاق على أسماء و جميع الذين يعدون نفسهم متأهبين عند كل جلسة مجلس وزراء ستذهب آمالهم مع رياح خلافات الطبقة السياسية.
التعطيل يترجم بخسائر ملموسة منها، تراجع إيرادات الدولة في وقت هي بأمسّ الحاجة إليها، وتمدّد إقتصاد الظل بفعل التهريب والتهرّب، وضرب الثقة الدولية، حيث يشترط المانحون إصلاحات في إدارة الموارد، والجمارك في مقدّمها.
في المقابل، تمّت التعيينات الأمنية والعسكرية بسرعة تحت شعار الحفاظ على الإستقرار. قادة الجيش وقوى الأمن والأمن العام عُيّنوا بشكل متتالٍ، فيما تُركت أهم مديرية مالية، التي تُدرّ مئات الملايين سنويًا، من دون إدارة أصيلة. وكأنّ حماية السلاح والأمن أولوية، أما حماية المال العام فمُهمَلة عمدًا.
الجمارك اليوم تختصر مأساة الدولة اللبنانية: مؤسسة يفترض أن تكون رافعة مالية في زمن الإنهيار، لكنها تُدار بالفراغ والتعطيل. وبينما تزداد الحاجة إلى كل دولار يدخل خزينة الدولة، تُترك المداخيل على المرافئ والحدود سائبة، في خدمة التوازنات السياسية والمحسوبيات.