«إخوان بالحليب وكل واحد عا دينو».. الأمثال الطائفية عند اللبنانيين

«إخوان بالحليب وكل واحد عا دينو».. الأمثال الطائفية عند اللبنانيين

  • ١٥ نيسان ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

بين الأمثال الشّعبية والطائفية.. مَن سَبَقَ الآخر؟

سبق النظام الطائفي قيام الدولة اللبنانية بفترة كبيرة من الزمن. تماماً كما سبق نشاط الطوائف ونشأت هوية الجماعات تبلوُر فكرة لبنان الدولة القائمة، اليوم، على «العيش المشترك بين جميع أبنائها».

للطوائف مميزات وثقافات مختلفة عن بعضها البعض، حيث لكل واحدة منها تاريخ خاص من الرفعة والإستقرار والوهن، كما التفاعل المميّز مع محيطها من الطوائف الأخرى. تتمثل تلك المميزات في كل شيء تقريباً، إذ أنّ لكل طائفة أبطالها القوميين الخاصين، كما فهمها المميّز للتاريخ ولحضورها في لبنان ودورها فيه. وتتعدى الإختلافات الشؤون السياسية والوجودية إلى ما هو أشد إلتصاقاً بحياة الإنسان، فتختلف كل طائفة، وإن بشكل أقل وضوحاً، حول الموسيقى وأنواعها، مروراً بأشكال الهندسية العمرانية مثلاً، وصولاً إلى الأمثال الشعبية الخاصة بكل طائفة.

لتلك الأخيرة تراث هائل من الأثر الإجتماعي، إلا أنّها قليلة الدراسة بالمقارنة مع الشؤون الأخرى المتمايزة بين الطوائف اللبنانية. الأمثال لها قدرة عجيبة على التأثير بالناس، إذ أنّها، عكس الأشعار والأغاني والكتب، أشد وطأة على مستخدميها ومستمعيها على حدّ سواء، ولها ديمومة في وجدان الناس وعلى شفاههم، ولخاصيتها الأسلوبية السلسة  فإنها تحُفظ وتُردّد على الألسن بسهولة من جيل الى جيل. إنّ الأمثال الشعبية هي، كما يقول إبن عبد ربه الأندلسي في كتابه «العقد الفريد»: «أبقى من الشِعر وأشرق من الخِطابة». فلا تضمحل أو يختفي تردادها إلّا عندما يقرّر الناس، بمجملهم، عدم إستعمالها. كما إنّ الأمثال أصدق من كلّ الفنون الأخرى، ذلك لأنّ المثل لا يشتهر إلّا لصحته ونتيجة خبرة جماعية ويتوقف عن الديمومة يوم يفقد تلك الميزة. صحة المثل «أوكسيجينه»، يموت مع إنتهاء صحته، ويستمر على ألسن الناس طالما يرى فيه الناس  حقيقة ما مرتبطة بظرف وحدث معين.

يذخر مجتمع الطوائف اللبناني بالأمثال الشعبية التي تحطّ من مقام واحدة منها أو ترفع من شأن أخرى، أو حتى تقيّم ثقافة تلك وعيوب غيرها. لا تقال تلك الأمثال بوجه الآخر مباشرة، بل تبقى داخل حدود الطائفة الواحدة، فلا حاجة إلى إفتعال أزمة مباشرة إن مُسَّ إحساس إبن طائفة من إبن طائفة أخرى.

«تغدى عند الدرزي ونام عند المسيحي» هو من أبرز الأمثال الطائفية الرائجة في لبنان، ويقصد منها الحطّ من أبناء الطائفة الدرزية وإمكانية غدرهم لضيوفهم في الليل، وتدل على إمكانية الوثوق بالمسيحي أكثر من غيره. للدروز حصة كبيرة من الأمثال الشعبية التي تبيّن خصائصهم الإجتماعية الفريدة كـ«هيدا الدرزي وهيدا الحيط» (تقال للأكراد كذلك)، وتعني أنّ الدرزي عنيد، وإن وضع أمراً نصب عينيه حققه. كما المثل الذي يقول «بيلبس قَبعو وبيلحق رَبعو»، الذي يدلّ على أسلوب لباسهم للقبعات التقليدية المميّزة وتعاضدهم كجماعة وطائفة وعائلات. و «بقاقي متل الدروز» دلالة على لهجة تلك الجماعة التي تستخدم حرف «القاف» في التخاطب وتشّد عليه خلال الكلام. و «عنب الدروز كل حبة برصاصة»، دلالة على أهمية الزراعة في حياة الطائفة وأبنائها...

للموارنة والروم الأرثوذكس سلسلة طويلة من الأمثال التي تحطّ من بعضهم البعض. تراجعت نسبة استخدام تلك الأمثال بسبب غياب التزاحم بين الطائفتين على النفوذ والقوة في لبنان، كما بسبب غلبة الموارنة الثقافية والإجتماعية والسياسية على «حليفهم اللدود» الروم الأرثوذكس. يقول أبناء تلك الأخيرة عن «إخوتهم» الموارنة: «ماروني وخَيّر؟ شي بحَيّر!»، أي أنّ القائل يتعجب كيف يمكن أن يكون أحد أبناء الموارنة شخصاً خيّراً. كما يقولون «يا موارنة يا مجانين بتصوموا بكوانين» في إستغراب لاستخدام الموارنة توقيت خاص في الصوم يختلف عن بقية المسيحيين. ومثل آخر ذو مدلول سياسي هو «التركي ولا بكركي»، وهو تفضيل الأرثوذكسي للحكم العثماني إن تمّ تخييره بينه وبين بكركي؛ مقر البطريركية المارونية في لبنان.

أما الروم الأرثوذكس فلهم حصة من الأمثال التي يتناقلها الموارنة وبقية الطوائف عنهم، فيُقال مثلاً: «الروم عضمن أزرق» و «الروم ما بيكسّر رأسه القدوم»، في دلالة على عنادهم وتعصبهم الديني. كما يقولون«متل خوري الروم، بيفوت من باب بيطلع من باب» في إشارة إلى تعقيد وعدم سلاسة الطقوس الدينية الأرثوذكسية. بالإضافة إلى المثل الأشهر «إذا كانت الكنافة بتدخِّل توم، الماروني بيحب الروم»، دلالة على أنّ حبّ أبناء هاتين الطائفتين يوازي في إستحالته استحالة مزج الكنافة المليئة بالقطر مع الثوم.

على هذا المنوال، تقدم الأمثال الرائجة دلائل على ثقافة متمايزة عند الطوائف اللبنانية، وتعطي فكرة عن مميزات واحدة ومكامن ضعف أخرى. كما يعبّر مضمون الأمثال عن كيفية رؤية كل طائفة لـ«شقيقتها»، وهي رؤية أكثر صدقاً من كلمات الرياء المنتشرة وجُمل التكاذب المشترك التي تُقال عند تلاقي إبن طائفة بأخرى.

للشيعة (أو المتاولة كما كانوا يسمون في الماضي) كذلك حصة من الأمثال الطائفية التي تقال عنهم، وهي بمعظمها تدل على مميزات إجتماعية خاصة لأبناء هذه الطائفة. يقول المثل «متل المتاولة: مية قلبة ولا غلبة»، أي أنّهم قد يغيّرون موقفهم ورأيهم الجماعي أو الفردي، ولو لعدة مرات، من أجل ضمان عدم الخسارة. كما يُقال «مرت المتوالي بتطبخ الطبخة وما بتعرف اذا بتاكل منا» في دلالة على سهولة الطلاق عند الشيعة، كما على كمية العنف التي يمارس من الرجال ضدّ نسائهم. بالإضافة إلى أمثال أخرى كـ«بنزّل بنتي عالسوق وببيعا، وما بعطيا لواحد شيعة»، وتعني أنّ الأب يُفضل، ولو رمزياً، أن يذهب إلى حد بيع إبنته في السوق على أن تتزوج أحدهم من الطائفة الشيعية. و «رب تلاتين ولا جزين»، وهو مثل طائفي – منطقي، يبيّن تفضيل أبناء الطائفة الشيعية التعاون مع أبناء جلدتهم في قرية صغيرة (رب تلاتين) على حساب مدينة مسيحية كبيرة (جزين).

للأمثال بين المسلمين والمسيحيين حصة الأسد من الأمثال الطائفية، وهي كثيرة وعميقة في تفاصيلها ودلالتها. يقول المسلمون مثلاً: «حب النصراني قد عازتك ليه، ولما بتقدر هبط الحيط عليه» وهو دعوة صريحة للإستفادة من المسيحيين، ومعاداتهم بعد إنتفاء إمكانية الإستفادة منهم. فيما يقول المسيحيون «إن وقعت مئدنة بمصر، الله يسلمنا من طراطيشها» في دلالة أنّ أي مصيبة قد تحلّ بالعالم الإسلامي، فإنّ مسيحيو لبنان قد يدفعون ثمنها إنتقاماً.

يقول المسلمون كذلك «جازة نصرانية: لا فرّاق الا بالخنّاق»، قاصدين أنّ الزواج المسيحي لا ينتهي سوى بأن يقتل أحد الزوجين الآخر، لأنّ طلاق المتزوجين مسيحياً صعب. فيما يقول المسيحيون «تنبل الإسلام درويش، وتنبل المسيحي قشيش»، أي أنّ المسلم الكسول «يتدروش» ويصبح متسولاً، بينما يعمل المسيحي الكسول في أي شيء، وحتى في «تقشيش» كراسي الخيزران ولا يرضى أن يكون متسولاً.

بالإضافة إلى بعض الأمثال المشتركة التي تذكّر المسيحيين والمسلمين على حد سواء كـ«غنى الموارنة للخوارنة، وغنى الإسلام للنسوان»، و «أسلمت سارة، لا زادوا الإسلام ولا نقصوا المسيحية»، و «لو ما أذن الجار، الجرس ما دق»، و «إخوان بالحليب وكل واحد عا دينو» وهي أمثال تستخدم للحطّ من الأفراد حيناً ومن مختلف الطوائف أحياناً أخرى.

الأمثال الطائفية الشعبية إذاً تراث ثقافي غني في لبنان، وهي أصدق من كلمات الرياء والتكاذب والمجاملة الكثيرة الإنتشار. فالأمثال ليست وليدة نظام سياسي فوقي فرضها أو خطاب زعيم سلطوي أطلقها، أو نتاج تدخل أجنبي أو إعلام تسويقي، إنّما هي نتاج خبرة الناس ،و نتاج المعاينة العفوية للأحداث والظروف ، ومازال إستخدامها مستمراً منذ عقود. .

أما هؤلاء الباحثون عن صَهر اللبنانيين وتوحيد ثقافاتهم كأسنان المشط، أو يعتبرون أنّ الطائفية هي نتاج هجين وغريب عن اللبنانيين، فما عليهم إلّا البدء بمحاربة الطائفية في النفوس، وليس الإتكال على بعض الأفكار المعلبة القادمة من الغرب لتطبيقها في لبنان، أو الدعوة إلى تغيير قانون من هنا وعُرف من هناك. فلنبدأ بالأصعب عبر إقناع الناس أنّه يمكن النوم عند الدرزي دون خوف من طعنة سكين في الليل، وأنّ الموارنة يمكنهم أن يكونوا أخياراً، والروم ليسوا جميعهم عناد، والزواج من شيعي لا يختلف عن الزواج من أي من أبناء الطوائف الأخرى، وأنّه يمكن أن نحبّ المسيحي والمسلم حتى وإن انتفت حاجتنا إلى أي منهما.