بين جدران الجامعة وساحات المعارك

بين جدران الجامعة وساحات المعارك

  • ٢٣ أيار ٢٠٢٤
  • إلياس معلوف

إنّ قوة تأثير الحركات الطلابية لا تكمن فقط في قدرتها على إحداث التغيير، بل تكمن أيضًا في قدرتها على إلهام الأجيال القادمة، وتشجيعهم على الوقوف من أجل قناعاتهم، والتغيير الذي يُؤمنون به.

«لا يمكن أن يبقى الناس المقموعون على حالهم إلى الأبد. إذ إنّ التوق للحرية يتجلى في نهاية المطاف» قالها مارتن لوثر كينغ في خضم نضال الحركة المدنية للسود الأمريكيين.. واليوم طلاب الجامعات الأميركية يعتصمون نصرة لغزة وبغية وقف فوري لإطلاق النار، في ظل العدوان الإسرائيلي على القطاع في 7 من أكتوبر.

وليست هذه المظاهرات شكلاً جديداً من أشكال احتجاج طلاب الجامعات الأميركية، بل هي أحدث حلقة في سلسلة من الاحتجاجات المستمرة منذ عقود. ورغم أن ظروف كلّ احتجاج كانت مختلفة عن الأخرى، فإنّ المضمون كان واحداً: شباب يطالبون بتغييرات في جامعاتهم أو في العالم بهدف إحقاق الحق وبسط العدالة. وهذه أبرز الانتفاضات الطلابية التي كان لها تأثير في تغيير الواقع السياسي محليا أو عالميا:

الاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام عامي 1968 و1970

ظهرت حركة مناهضة سلمية للحرب في فيتنام خلال النصف الثاني من ستينيات القرن العشرين، وخلفت حراكاً نشطاً بالولايات المتحدة، وامتدت
على مدى واسع حول العالم، وبدءاً من عام 1968 أصبح الحراك حافلاً بالصدامات، حيث سيطر طلاب جامعة كولومبيا  على عدة مبان وطالبوا بإلغاء العقود مع مراكز أبحاث الأسلحة المرتبطة بالحرب.

 

«ستواصل زوابع الثورة زعزعة أسس أمتنا إلى أنّ تبزغ شمس يوم العدل» هذه المقولة لـمارتن لوثر كينغ تجسد الواقع في ذاك الوقت. ومن الحرب إلى الفن إذ أثار منظر التوابيت في الطائرات الحاملة جثامين ألوف الشبان الأميركيين «عائدين» إلى ديارهم وسط عويل أهلهم وأحبائهم غضب الشعب الأميركي، ما دفع مجموعة من الفنانين بالتدخل عبر سلاحهم الخاص «الموسيقى». ومن هنا أبصرت المغناة الراقصة «هير» النور التي أثارت العالم وساهمت في إنهاء حرب.

ومع هذا حين نشاهد هذه المغنّاة اليوم قد لا يبدو واضحاً تماماً الدور الذي نعزوه لها. بل أكثر من هذا، لئن كان قد بقي لنا اليوم الفيلم الذي حققه الراحل ميلوش فورمان انطلاقاً من «هير» معتمداً العنوان نفسه، فإنه لا يبدو  وافياً بالغرض. أولاً لأنه بسّط المغناة واجتزأ الكثير من معانيها بل حولها إلى عمل كوميدي، وثانياً لأنّ قوة المغناة كانت في آنيتها الحدثية وتحديداً في ارتباطها بمشهد التوابيت العائدة من أرض المعركة ووقع ذلك المشهد على أبناء الشعب الأميركي. 

موضوعان تتناولهما المغناة بشكل أساسي إضافة إلى عدد من الأمور الأخرى المتشعبة والتي تصبّ في نهاية الأمر في خانة الموضوعين الرئيسيين: الثقافة المضادة بما فيها المجتمع المفتوح وحرية تناول الممنوعات وحلول غناء جديد محلّ كل الأنماط القديمة، من ناحية أولى؛ وحرب فيتنام ونضال الشبيبة الأميركية في سبيل السلام من ناحية ثانية.

ونذكر بالعودة إلى الانتفاضات الطلابية التي كان لها تأثير في تغيير الواقع السياسي محليا أو عالميا:  

إعتصامات جامعة تريساكتي بإندونيسيا عام 1998

نظم طلاب جامعة تريساكتي في جاكرتا بإندونيسيا احتجاجا سلميا في 12 مايو/أيار 1998، واجتمع 6 آلاف طالب وأستاذ للمطالبة باستقالة الرئيس محمد سوهارتو، بسبب الأزمة المالية التي كانت تعصف بالدولة. وخلال اليومين التاليين، جرت أشد أعمال الشغب وأكثرها عنفا في تاريخ البلاد.

وحاولت الشرطة منع المتظاهرين من القيام بمسيرات، وأجبرتهم على العودة إلى الحرم الجامعي، وأطلقت عليهم النار بشكل عشوائي، مما تسبب في قتل 4 طلاب وإصابة العشرات، وعندها تصاعدت حدة المواجهات، وقام المتظاهرون بأعمال شغب، وبدأ بعضهم استهداف الإندونيسيين من أصل صيني، مما أدى إلى مقتل 1888 شخصاً.

مظاهرات سويتو جنوب أفريقيا عام 1976

قاد طلاب المدارس الحكومية في «سويتو» بجوهانسبرغ في جنوب أفريقيا  عدداً من الانتفاضات والاعتصامات المناهضة لنظام الفصل العنصري  في الفترة ما بين عامي 1970 و1980.

ويوم 16 يونيو/حزيران 1976، خرج ما بين 3 آلاف و10 آلاف طالب في سويتو باحتجاج سلمي على نظام الفصل العنصري، واشتبكت الشرطة مع المتظاهرين، مما أسفر عنه  مقتل 176 شخصا، بحسب ما صرحت به السلطات. غير أنّ التقديرات غير الرسمية قدرت عددهم بنحو 700 شخص وألف جريح.

وأدى ذلك إلى ثورة واسعة النطاق، تحولت إلى انتفاضة ضد الحكومة، وانتشرت الاحتجاجات من «سويتو» إلى جميع أنحاء البلاد، واستمرت حتى العام التالي.
وجلب الحراك تعاطفاً عالمياً، وانضم طلاب الجامعات في بريطانيا والولايات المتحدة ودول أخرى إلى الحراك، ونظموا اعتصامات مناوئة لنظام الفصل العنصري، وضغطوا على جامعاتهم لسحب استثماراتها من مؤسسات جنوب أفريقيا الداعمة للنظام.

الانتفاضة ضد الحكم العسكري باليونان عام 1973

استولى العسكر على السلطة في اليونان عام 1967، وأخذت التوترات تسود جراء الحكم الدكتاتوري المسيطر، وفي 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1973 نظمت مجموعة من الطلاب اليساريين في كلية أثينا للفنون التطبيقية اعتصاما سلميا ضد المجلس العسكري.

ولم يلقَ الاعتصام في بدايته تفاعلا يُذكر، فتحصّن الطلاب داخل الجامعة، وأنشأوا محطة إذاعية، بثوا من خلالها برامج حثوا فيها الشعب على الانضمام لإسقاط الحكم العسكري، واستجاب الآلاف للدعوة، وتجمعوا داخل الجامعة ونواحيها، وتحولت الاعتصامات إلى ثورة ضخمة ضد السلطات.
وبعد 3 أيام من الاعتصامات السلمية، اقتحم الجيش الجامعة بالدبابات والقنابل، وأطلق النار على المتظاهرين، فقُتل 24 مدنيا، من بينهم طلاب من المدارس الثانوية، كما أصيب المئات، واعتقل ما يصل إلى ألف شخص.

الإحتجاج على المعاهدة الأمنية عام 1960

بدأت اليابان والولايات المتحدة عام 1959 محادثات لتعديل معاهدة «التعاون والأمن المتبادل» التي تتيح للأخيرة حق الاحتفاظ بقواعد عسكرية لدى الأولى، وتلزم البلدين بمساعدة بعضهما البعض في حال وقوع هجوم مسلح على الأراضي اليابانية. وأثارت هذه المفاوضات غضب اليابانيين، وأعرب بعضهم عن قلقه من أن تقحم المعاهدة بلادهم في الحروب.

وفي 15 يناير/كانون الثاني 1960 احتل آلاف الطلاب مطار «هاريد» في محاولة لمنع رئيس الوزراء نوبوسوكي كيشي من السفر إلى واشنطن  للقاء نظيره دوايت آيزنهاور والتوقيع على النسخة الجديدة من المعاهدة.

ولكن نوبوسوكي استطاع السفر، ووقعت المعاهدة، وعندئذ انطلقت الاحتجاجات الطلابية ضد الحكومة، مطالبة نوبوسوكي بالتنحي، وتوجه الحراك نحو حماية الحقوق الديمقراطية للشعب الياباني.

المسيرات المناهضة للشيوعية بالمجر عام 1956

بدأت المسيرات المناهضة للشيوعية في المجر يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 1956 في بودابست، عندما دعا طلاب الجامعات المواطنين للانضمام إليهم في مبنى البرلمان، للاحتجاج على هيمنة الإتحاد السوفياتي على البلاد.

وقاد الطلاب المسيرات ونددوا بالشيوعية وطالبوا باستقلال المجر، واقتحموا مبنى الإذاعة، وحاولوا استخدامها لبث مطالبهم، إلا أن قوات الأمن احتجزتهم، وأطلقت النار على المتظاهرين فقتل عدد منهم. وكانت المسيرات بداية الثورة التي أطاحت بالحكومة السوفياتية.

مناهضة الاحتلال البريطاني في مصر عام 1919

اندلعت الثورة عام 1919 حين خرج طلاب مدرسة الحقوق بجامعة القاهرة في مظاهرات للاحتجاج ضد الاحتلال البريطاني، واعترضوا على نفي زعيم الحركة الوطنية آنذاك سعد زغلول  و3 من رفاقه إلى مالطا، وانضم إليهم طلاب مدرسة «المهندسخانة» ومدرسة الزراعة ومدرسة الطب ومدرسة التجارة ودار العلوم وطلبة مدرسة الإلهامية الثانوية والقضاء الشرعي.

وحاصرت القوات البريطانية المتظاهرين في ميدان السيدة زينب، واستخدمت العنف ضدهم، وتضامن الأهالي حينئذ مع الطلاب وألحقوا خسائر بالبريطانيين الذين استطاعوا فض المظاهرة، واعتقلوا 300 طالب.

وكان ردّ الاحتلال البريطاني على المظاهرات عنيفاً، فارتكب الفظائع وقتل الآلاف وأحرق قرى بكاملها، ونصب محاكم عسكرية بالشوارع لمحاسبة المتظاهرين، وأصدر أحكاما بالجلد والحبس والغرامات المادية.

حركة الطلاب من أجل المناخ(Fridays for Future)

خارج إطار الصراعات المسلحة برزت حركة من أجل عالم مهدد بالزوال بسبب التغير المناخي قادتها المراهقة السويدية غريتا ثومبورغ وحيدة في البداية فألهمت الملايين من التلاميذ في المدارس الثانوية حول العالم للإحتجاج والضغط على حكوماتهم من أجل إتخاذ إجراءات لمكافحة الإحتباس الحراري الذي يهدد مستقبل البشرية.  

فلا يمكن إنكار أنّ الحركات الطلابية تُشكّل قوة هائلة في المجتمع.  فهم صوت قادة المستقبل،  يحملون طاقة هائلة ووعياً مُتزايداً،  ويُمكنهم استخدام هذه القوى لتحريك الرأي العام،  وإحداث تغيير حقيقي في المجتمع. 

من خلال التنظيم،  والاتصال،  والابتكار، والمعرفة  يُمكن أن يُشكلوا ضغطاً هائلاً على صناع القرار وإجبارهم على الاستجابة لمطالبه. فالتاريخ حافل بأمثلة على حركات طلابية حققت تغييرات جذرية في العالم.

إنّ قوة تأثير الحركات الطلابية لا تكمن فقط في قدرتها على إحداث التغيير،  بل تكمن أيضًا في قدرتها على  إلهام الأجيال القادمة،  وتشجيعهم على  الوقوف  من أجل  قناعاتهم،  والتغيير  الذي  يُؤمنون  به.
ففي النهاية،  تُعدّ  الحركات  الطلابية  مُؤشراً  على  حياة  ديمقراطية  صحية، ودليل  على  أنّ  صوت  الشباب  يُمكن  أن  يُحدث  فرقاً  حقيقياً  في  العالم.