في عيد الأب.. شيءٌ من الرقة خلف هذه الصلابة

في عيد الأب.. شيءٌ من الرقة خلف هذه الصلابة

  • ٢١ حزيران ٢٠٢٤
  • غادة حدّاد

أمام الصورة الصلبة للرجال، هناك أفراد يتألمون، والعديد منهم مرهقون وغاضبون من شدة الألم في حياتهم.

يحتفل العالم اليوم بعيد الأب، أو يخيل لنا ذلك. فيما تحتفل دول أخرى، مثل روسيا، بعيد الأب في الأول من آب، تزامناً مع عيد الجيش. القليل من المراقبة، يتضح لنا خفوت الإهتمام بعيد الأب، مقارنة بعيد الأم.

مع ولادة الطفل الذكر، يحدّد له مسار حياته: رجل قويّ، مفعم بالذكورة، لديه السلطة والمال، غير عاطفي، عملي ومنطقي، يفرض سيطرته على محيطه، خاصة النساء والأطفال. في الشكل، هذا النموذج المطلوب من الذكر. وفي الباطن، يكمن طفل منع من أن يكبر كما يريد، أن يحب كما يريد، أن يبكي لأنّه حزين، وأن يتعب لأنّه مرهق، وأن يحب لأنّه يحب.

قيل لرجالنا إنّ دموعهم تهدد قوتهم، وإنّ ضعفهم هو تخلي عن مسؤولياتهم. حملوا وزر المبادرات، والتضحيات. هم أول فئة يرمى بها في ساحات القتل والموت. وهم آخر فئة يسأل عن صحتهم النفسية، عن أوجاعهم وأحزانهم.

جرد الرجال من إنسانيتهم، كبشر لديهم مشاعر وأحاسيس، والبسوا ثوب العنجهية والتسلط. ومن يخرج من هذا الإطار المحدّد، يكون خائن لجنسه. ومن يغدو أباً من بين هؤلاء الذكور، يفترض به التعامل مع أطفاله بطريقة عقلانية، خالية من المشاعر والتعاطف، على إعتبار أنّ الرجل هو السلطة في المنزل، وهو المحرك الإقتصادي له، وبالتالي دوره يقتصر على تأمين المال والإحتياجات المادية للأسرة، أمّا العاطفة فهي محصورة بالأم. في إسقاط لعلاقة السلطات والحكومات بالشعوب، علاقة قائمة على التسلط، والتفوق، دون أي مشاعر إنسانية.

ليصبح عيد الأب مجرد تاريخ على روزنامة، وأعطي كجائزة ترضية للرجال، لأنّه في وقت معين باتوا آباء، دون حصولهم على حقهم بأن يمارسوا أبوتهم. وهذا ما يفسر اعتبار عيد الاب، ملازم لعيد الجيش، فالرجل ولد ليقاتل ويموت ويجلب المال.

ما يظلم الرجل، هو نفسه ما يظلم النساء. النظام الأبويّ. في التاريخ، ومع ظهور العملة والإنتاج، أعطى النظام الابوية الرجل السلطة والإمتياز الأساسي في مختلف جوانب المجتمع، بما في ذلك السياسة والاقتصاد والثقافة. يرجع تاريخه إلى الثورة الزراعية، يوم تحوّلت المجتمعات من الصيد وجمع الثمار، إلى المجتمعات الزراعية المستقرة. في هذه المجتمعات، تحوّلت ملكية الأرض وإنتاج الفائض الغذائي، مرادف لمركزية السلطة والثروة. ونتيجة لذلك، حصل الرجال، الذين كانوا عادة يقومون بالأعمال الجسدية الشاقة مثل الحرث والصيد، على موقع مهيمن. أدى هذا التحكم الجديد في الموارد إلى إخضاع النساء، اللواتي غالباً ما تمّ تقليص أدوارهن إلى الأدوار المنزلية، التي اعتُبرت أقل قيمة في نظر المجتمع.

كما شكّل هذا النظام مفاهيم إجتماعية، تنقل إلى الأجيال على أنّها من الطبيعة البشرية، ومنها الأنوثة والذكورة. فالانوثة تعتمد على معايير الجمال والرقة والخجل والصوت المنخفض، والخوف من الرجل، والإعتماد على صورة الذكر للحماية. فيما الذكورة فتقوم على القوة والعنف والتسلط والصوت المرتفع واحتقار النساء. وأي محاولة لانتقاد هذه القوالب، يصبح الفرد حكماً خارج المألوف إجتماعياً. 

وكما تشرح الفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار كيف تتشكل النساء إجتماعياً، على قاعدة أنّنا «لا نولد نساءً، بل نغدو كذلك»، أيضاَ لا يولد أحداً رجل، بل يغدو كذلك، مع كل ما يتشربه من مفاهيم سامة، مما يشكل ضغطاً عليهم، وخلق منافسة فيما بينهم على السلطة والمال، والعمل الدائم لاثبات الرجولة من خلال التخلي عن فرديتهم وإنكار إنسانيتهم. إضافة إلى الضغوط لاتخاذ المخاطر، وتجاهل الصحة، والتعامل مع القلق والضغط النفسي عبر المهدئات والكحول والمخدرات.  

تشكل هذه الأفكار الأبوية خطراً كبيراً على صحة الرجال، لأنّ الذكورة تشجع على السلوكيات الخطرة، وتثنيهم عن طلب المساعدة أو اللجوء إلى السلوكيات المحسنة للصحة، مما يعني أن الرجال أكثر عرضة للإصابة أو المرض، وأقل عرضة لطلب المساعدة عندما يكونون بحاجةٍ إليها. وليس من المستغرب، أن يكون متوسط العمر المتوقع للرجال في جميع أنحاء العالم، أقل بحوالي ثلاث إلى أربع سنوات من النساء.

تخلق هذه الأفكار السامة حواجز أمام الرجال في بناء علاقات ذات مغزى وصحية مع الآخرين، من خلال خلق حواجز معادية للمثلية ضد الصداقات العميقة بين الرجال، التي تتضرر أكثر بالتهديد المستمر بالعنف بين الرجال. كما تعزز هيمنتهم على النساء، وتبرر وتشجع على تجريد النساء من إنسانيتهن، مما يؤدي إلى شعور الذكور بالأحقية والعنف.

هذه الأفكار والتصرفات، تشكل مجتمعةً مفهوم الذكورة السامة، وهي عبارة عن قواعد ومعايير ومعتقدات وسلوكيات تضر بالرجال ومحيطهم، تبدأ بالقول لهم «الرجال لا يبكون» أو «كن رجلاً فقط» أو تطبيع مع إظهار العنف. 

يتشارك الرجال ممن تشربوا هذه الأفكار من سمات محددة: العدوانية، والغضب، والحزن العميق، والانفصال عن أي شيء يشعرهم بالرضا والصدق مع هويتهم. وكلما أظهر الرجال هذه السلوكيات، زادت فرصهم في الصعود في السلم الإجتماعي للنظام الأبوي، كما تساعدهم هذه الصفات في الحفاظ على السلطة، والحفاظ على الذات المكونة اجتماعياً.

أمام الصورة الصلبة للرجال، هناك أفراد يتألمون، والعديد منهم مرهقون وغاضبون من شدة الألم في حياتهم. ويريدون معرفة من يجب «لومه» على هذا الواقع. والكثير منهم يلوم والده، لأنّه كان قاسياً، وغير متوفر عاطفياً. ودون أن يشعروت، يكررون التصرفات مع أطفالهم، ليتحولوا من الضحية إلى الفاعل، في عملية متوارثة لألم بدأ مع تكون العمل والمال والسلطة.

فهذا النظام الذي يعتقد أنّ الشيء الوحيد الذي يجيده الرجال هو القتال في الحروب، وعمل أذهانهم أو أجسادهم حتى الإرهاق، يطبّع فكرة اللا انسانية الرجل، والفرض عليهم بأن يكونوا معيلين، وإعتبارهم غير مؤهلين وغير صالحين لتربية الأطفال، أو ليسوا بطبيعتهم مقدمي الرعاية. وهذا ما يجبرهم على تجاهل الضغوط التي يعيشونها، وإخفاء مشاعرهم ليبدو أقوياء، أو تجنب تحميل أحباءهم أعباءاً، وربما هو مزيج من الإثنين.

وكما يمر عيد الأب خجولاً بين الأعياد، تظهر الحاجة إلى إعادة التفكير بدور الرجال في الحياة الإجتماعية والإقتصادية، خارج قوالب السلطة والمال، لعلنا نجد أفراد أكثر رقة وتعاطف مما فرض عليهم من أجيالٍ وأجيالٍ إلى الوراء. ولنحتفل بآبائنا، كما نحتفل بأمهاتنا، إذ ما خفي وراء هذه القوة والصلابة، شيء من الرقة لم تجد لها مكان في هذا العالم.