لولا الكاف، يا ماكرون، لكُنت مارونَ.
لولا الكاف، يا ماكرون، لكُنت مارونَ.
المفارقة الغريبة هي تلك الحفاوةُ اللبنانيّة بالوعي الشعبيّ هناك. والأغرب هو أن يقدّر لبنانيٌّ، توارثَ قِبلة تأييده واقتراعه عن جدّ جدّه، نُضجَ ومرونة ناخبٍ فرنسيّ. أو أن يُثمّن آخرُ نباهة مواطنين إلى خطر التطرف اليمينيّ على مستقبل فرنسا، وهو يولي مستقبل وطنه وأولاده إلى تطرّفٍ ميليشياويٍّ مسلّح.
لا نعلم من أين تأتي بعض الحروف بهذا الكمّ من الجُرأة، لتدخل على أسماء هالات السياسة، وتسلبها سماتَها الإلهيّة. فالهاء، مثلًا، نزعت، بجرأةٍ خارقة، عن نبيه برّي نُبوّتَه، وألقت حرقةً أزليّة في قلوب مناصريه. جرأةٌ لن تجدها اللام، أبدًا، مع الرجل. ارتفاع حاجز الرهبة، المُحيط بأسماء الزعماء، هو متناسبٌ طرديًّا مع سوء الأنظمة ورداءة الحياة في بلدانهم. ومع السوء والرداءة، في لبنان، يشبّ الزعماء فيه على العرش، ويشيبون عليه.
"الثبات في السياسة، أحيانًا، سُبات"
شكّل صعود اليمين المتطرف في جولة الإنتخابات الفرنسيّة الأولى، قبل أسبوع، قِبلة اهتمامٍ كونيّ. وقبل أيّام، وفي جولة الإعادة، فعل نزولُه الِمثل. دخل الفرنسيُون في شرنقة معاداة المهاجرين مع اليمين، وخرجوا منها، لغياب المشروع والرؤية عنده، في أسبوعٍ واحد، لم تستطع، خلاله، أوجه اليمين الإجابة عمّا هم فاعلون، إن وصلوا، غير كراهية الغريب. هذا التبدّل الرشيق في المزاج الشعبيّ في أسبوعٍ واحدٍ، لم يكفِ قرنٌ كاملٌ لحصول مثيلٍ له في أدغال السياسة اللبنانيّة. فرغم غياب الرؤية والمشروع والنيّة المزمن عند أحزاب لبنان، ومع ارتكاباتٍ وجرائمَ لها لا تُحصى ولا تُعدّ، بقي اللبنانيّون ثابتون خلفها. الثباتُ على الرأي فضيلةٌ، والتبديلُ السريعُ فيه هو، في العادة، إمّا تهوّرٌ أو خفّةٌ في الذهن والثقة. في الديموقراطيّة، ليست هذه قاعدة. الثبات في السياسة، أحيانًا، سُبات.
"ماكرون الذي أنقذ زعماءنا وسقط"
قفز ماكرون، بخفّةٍ وقوّة، من قصر المصرف إلى قصر الإليزيه. ظفر الرجل بولايتَين، أفقدتاه كلّ الزخم والتأييد. لم يقدّم ما وعد به مواطنيه، فسقط، وإن كان في المعسكر المُحتفل يالنتائج. يشدّد حلفاؤه، اليوم على خسارته، أكثر ممّا يفعل خصومه. في عشرة أعوامٍ، تحوّل الرجل من حاكم إلى دعابة. لم تهدِه هالته حُكمًا أبديًّا في فرنسا. هناك، لا هيبةٌ ولا قدسيّةٌ ولا عِصمةٌ عن الخطأ تُحيط بالزعماء. لا هالةٌ لهم، أصلًا، ولا ديمومةُ حكم ولا حواجزُ حولهم. في لبنان، يتنعّم الزعماء الذين أنقذهم ماكرون بحواجز، فائقةُ الشُهوق، لا يتجرّأ عليها غير الحروف المجنونة.
"شاطر بالفرنساوي"
من منظارٍ سياسيّ، ليست خسارة معسكر اليمين الفرنسيّ هي الحدث، بل انتقال الثقل الشعبيّ من مزاجٍ إلى مزاج بفترةٍ قياسيّةِ القُصر. بعد سنواتٍ من تراكم خطاب تطهير فرنسا من الغرباء وصدّ تدفّق اللاجئين إليها، نجح تحالف مارين لوبين اليمينيّ في كسب مزاجٍ شعبيٍّ واسع، ثمّ فشل، في المسافة الأخيرة قبل خط الفوز، في حفظ الزخم وكسب السباق. شكّل تراجع ماكرون، إلى حدود الإضمحلال، مفارقةً أيضًا. لكنّ المفارقة الغريبة هي تلك الحفاوةُ اللبنانيّة بالوعي الشعبيّ هناك. والأغرب هو أن يقدّر لبنانيٌّ، توارثَ قِبلة تأييده واقتراعه عن جدّ جدّه، نُضجَ ومرونة ناخبٍ فرنسيّ. أو أن يُثمّن آخرُ نباهة مواطنين إلى خطر التطرف اليمينيّ على مستقبل فرنسا، وهو يولي مستقبل وطنه وأولاده إلى تطرّفٍ ميليشياويٍّ مسلّح. هنا، أيضًا، من يمدح من هجروا قلّة إنجاز ماكرون، وهو يُنصِّبُ، بعد الله بقليل، عرّابي معاملَ لا تنتجُ تيّارًا وسدود لا تطيق الماء. فالمواطن اللبنانيّ… "شاطر بالفرنساوي".
"الكاف الطريفة"
ليست الكاف بحاجةٍ إلى جرأةٍ خارقة لتمويه إسم زعيمة حزبٍ فرنسيٍّ أو رئيسٍ هناك. قد تهجر إسم ماكرون ممازحة: لولا الكاف، يا صديقي، لكُنت مارونَ. قد لا تكون الدعابة مضحكة، فالفرنسيون ليسوا مشهورين بحس الفكاهة، لكنّها، حتمًا، ستضحكنا هنا في لبنان. هنا، حيث خاطرت السين برسمتها، وتجرّأت على "مير" القوات، واقتحمت الدال، بلا تردّدٍ، إسم "وليّ" الجبل.