السيد ما زال على قيد حياة

السيد ما زال على قيد حياة

  • ٠٣ تشرين الأول ٢٠٢٤
  • غادة حدّاد

لا يريد الناس تصديق أنّ السيّد حسن نصرالله إستشهد. يصيغ مناصرو حزب الله، سيناريوهات حول خدعة قام بها للايقاع بعميل، أو إيهام إسرائيل بأنّه مات، ليقلب الطاولة عليهم. ومن هم خارج دائرة الحزب ولا يؤيدونه، يصعب عليهم تصديق أنّه فعلاً مات. ففي الذاكرة الجماعية للبنانيين، كان نصرالله راسخاً منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وفي لحظة لم يعُد موجوداً.

تشكلت صورة نصرالله، بفعل ارتباطه بالاحداث. فهو قاد حزباً، أدى قتاله إلى تحرير الجنوب، وارتبط اسمه بنصر حرب تموز، يوم العرب رفعوا صورته. هذا التأييد الذي خسره بفعل تدخله في سوريا، والدفاع عن النظام البعثي، أفقده ما يعرف بالبيئة الحاضنة، محلياً وإقليمياً.

ومنذ حرب تموز، عاش السيّد في حالة تخفي. ظهر علناً مرات عدة، أبرزها يوم تحرر سمير القنطار، الذي اشتعلت حرب تموز بعد أسر جنديين إسرائيليين، بهدف تبادل الاسرى وتحرير القنطار. هذا التخفي، رسم حول نصرلله هالة أخرى، جعلته مشابه لشخصية أسطورية، وموته بهذه البساطة، شكل صدمة للجميع.

أبرز قراءة لعلاقة القائد بالجماهير قدمها عالم النفس الاجتماعي الفرنسي غوستاف لوبون، في كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير»، الذي حلل فيه سلوكيات الجماهير، منطلقاً بتحديد تعريفين لها، بين عامة الشعب (Le public)، والجماهير (La foule). فالجماهير جزء من العامة، لكنهم يجتمعون على فكرة، يمكن أن تكون أيديولوجيا أو فرقة موسيقية أو فريق كرة قدم. ويتحرك الجماهير بناءً على مثير خارجي، ويمكن أن تكون إشارة أو أغنية، ومنها تخرج ردة فعل مشتركة من الجمهور، ذلك لأنّ الجماهير هي عبارة عن تجمعات عاطفية، وغير عقلانية، وتخضع لتأثير القادة الذين يمتلكون القدرة على توجيهها واستغلال انفعالاتها. بالنسبة للوبون، القادة لديهم دور حاسم في توجيه هذه الجماهير، وتستند قدرتهم على القيادة إلى بعض العوامل النفسية.

يرى لوبون أنّ القائد يمتلك شخصية قوية تجذب الجماهير، وله القدرة على التأثير العاطفي. أما الجماهير فتفتقر عادة إلى التفكير النقدي، مما يجعلها أكثر استعداداً للخضوع لسلطة القائد، إذا أظهر هذا الأخير ثقة بالنفس وقدرة على تقديم حلول بسيطة وواضحة. فيما القادة لا يقودون الجماهير بناءً على المنطق أو العقلانية، بل من خلال خطاب عاطفي وشعارات تحاكي مشاعرهم العميقة. يستطيع القائد أن يجسد الإرادة الجماعية ويوحّد الجماهير من خلال إثارة الحماس أو الخوف أو الأمل. ولترسيخ سلطتهم، يلجأ القادة إلى استخدام الرموز والشعارات التي يسهل على الجماهير فهمها. هذه الرموز تعمل على تعزيز الولاء والجاذبية، وتحويل القادة إلى شخصيات كاريزمية تحظى بالتبجيل. واصبع السيّد كان رمز الذي قاد جمهوره، فحين يرفعه تعلو هتافات «لبيك يا نصرالله"». وفي مقابلة سابقة معه، قال نصرالله إن كان يعرف سلطة هذه الحركة، وباتت يتقن استخدامها، متى أراد إخراج ردة فعل موحدة لجمهوره.

في علم النفس السريري، يعتبر التقبل أحد أسس العلاج، وبعدها يبدأ الحل. وفي الموت، تعتبر مراسم الدفن والحِداد، أحد أشكال تكريم الميت، وميكانيزمات تقبل الموت. وأيضاً جزء من التخطي هو تقبل فكرة الموت. السيّد لم يدفن بعد، ولم يرَ أحد الجثة، باستثناء مقطع فيديو وحيد حول انتشال الجثة من موقع الاغتيال.

في نظرية «العهد الأبوي»، لفرويد، يشرح كيف يعمل النظام الأبوي، وأنّ أي تحدٍ له، يهدد بنية المجتمع بأكملها وتعرضها للتهديد بالاندثار. وغياب صورة الأب تؤدي إلى الانهيار الجسدي والعاطفي والروحي، ولتخطيه، هناك ضرورة لمواجهة الفقد، فغياب الاب يعني غياب الأمان.

في ظل الحروب والتحديات المستمرة، تحدد صورة القائد مستقبل البلدان والمنظمات والبيئة وحياتنا. والعلاقة بين القائد والجمهور، تنبع من حاجة عاطفية للامان، وشخصية القائد تحدد سلوكهم، فإنّهم لا يصبحون قادة إلا إذا كان لديهم أتباع. ويتبع الناس شخصاً ما لأسباب مختلفة. وتعتمد هذه الأسباب على احتياجات وقيم الأتباع فضلاً عن صفات القادة. كما تشكل القيم الثقافية والتحديات التاريخية علاقات القائد بالتابع.

العلاقة الافقية بين الزعماء والاتباع، نشأت بفعل التسلسلات الهرمية الاجتماعية والقيادة الاستبدادية، بدءاً من المجتمعات الزراعية الكبيرة. في دراسة نفسية أنثروبولوجية لقرية مكسيكية، وجد عالم النفس الألماني إيريك فروم و‏محلّل نفسي وخبير أنثروبولوجي أمريكي مايكل ماكوبي، أنّ الفلاحين لا يقبلون القيادة إلا عندما يتعرضون للتهديد، أو من أجل مشاريع واعدة، وهي مواقف شائعة تجاه القيادة في مجتمعات الفلاحين، تشبه المجتمعات البدوية التي درسها علماء الأنثروبولوجيا خلال المئة عام الماضية.

التبعية لزعيم، بحسب فرويد تتشكل لانّهم مجبرون، أو لأنّهم يشتركون في الوهم بأنّ الزعيم يحبهم، ويجعلونه مثالًا لأنانيتهم. وأضاف فروم، إنّهم يتماهون مع الزعيم ومع بعضهم البعض.

هذه العلاقة مزدوجة التوجه، فإما أن تؤدي إلى تطور سلوك الاتباع، أو تولّد نمط من الرجعية. تشير دراسات علم النفس، أنّ القادة الكاريزماتيين يتسببون في الانحدار، حيث يستبدل الأتباع المثل الأعلى للأنا لدى القائد بمثلهم الأعلى، في حين يقدم القادة الملهمون مثالاً للمثل الأعلى للأنا التقدمي، الذي يمكن للأتباع أن يطمحوا إليه بشكل أكثر تقدمية. في كتابه «الهروب من الحرية»، اعتبر فروم أنّ القادة جزء من ظاهرة الهروب من الحرية التي يعاني منها الأفراد في المجتمعات الحديثة، معتبراً أنّ بعض الناس يتخلون عن حريتهم الشخصية، ويتبعون قادة أقوياء، لشعورهم بالخوف من الحرية الفردية. القادة، وفقًا لفروم، يمكن أن يستغلوا هذا الخوف ويستخدموا سلطتهم لتوجيه الأفراد، سواء نحو الإبداع والحرية الحقيقية أو نحو الهيمنة والتبعية.

يناسب هذا الوصف للعلاقة بين القائد الكاريزماتي والتابع، العلاقة بين أدولف هتلر وأتباعه النازيين، وكذلك علاقة دونالد ترامب وقاعدته، التي آمنت بأكاذيبه وأوهامه، وتقبلت منظومته الأخلاقية بدلاً من منظومتهم الخاصة.

تُعد الأفعال القيادية فعّالة في الثقافات الوطنية المختلفة، ولكن نوع العلاقة بين القيادة والتابع مختلفة. على سبيل المثال، لاحظ ماكوبي أنّه في الصين، ألغت الثورة الثقافية العلاقات الكونفوشيوسية التقليدية الأبوية، ولكن مع الصينيين العرقيين في تايوان وسنغافورة، لا تزال هذه العلاقة قائمة.