عام على الإتفاق… عام من العجز

عام على الإتفاق… عام من العجز

  • ٢٧ تشرين الثاني ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

ما بدا بسيطاً في نص الإتفاق، إنقلب في الواقع إلى معادلة البيضة والدجاجة. وإسرائيل، كأنّها تقول: «تمام، لم تلتزموا، فلن نلتزم».

مرّ عام كامل على توقيع إتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وحزب الله وإسرائيل. عام كان يُفترض أن يحسم الجدل حول مستقبل السلاح والحدود والسيادة، فإذا به يعيد البلاد إلى أسئلتها الأبدية: من يتحمل المسؤولية؟ ومن يبدأ أولاً؟ عام كامل، والاتفاق الذي وُقّع ليُنهي دورة العنف، تحوّل إلى مسرح عبثي تتبادل فوقه الأطراف الحجج، فيما الجنوب يقصف كل يوم أو آخر، والدولة اللبنانية تقف عند منتصف الطريق، لا تمسك بناصية القرار الحازم كما لا تتلكأ عن تطبيق الاتفاق بالكامل.

 

على الورق، الإتفاق واضح لا يحتمل التأويل. حزب الله يسلّم سلاحه للدولة، ويفكك بنيته العسكرية بالكامل، شمال وجنوب الليطاني، مع العلم أنّ الإتفاق لا يذكر هذا النهر بتاتاً، ولا يفصل بالتزامات الحزب بين جنوبه وشماله. في المقابل، تنسحب إسرائيل من كامل الأراضي اللبنانية خلال ستين يوماً من دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ. غير أنّ ما بدا بسيطاً في نص الإتفاق، انقلب في الواقع إلى معادلة البيضة والدجاجة. الحزب يرفض تسليم سلاحه قبل الإنسحاب الإسرائيلي، وإسرائيل ترفض الإنسحاب قبل نزع سلاح الحزب. ومع هذا الإشتباك المتبادل في الأعذار، يبقى التنفيذ معلقاً في الهواء، ويبقى لبنان وحده في قلب العاصفة.

 

حزب الله، طوال 12 شهراً، لم يُظهر سوى القليل من نية الإلتزام. الجنوب تحت رقابة دولية مشددة وهو سلّم، مكرهاً، بعض مراكزه هناك، لكن البنية العسكرية شمال الليطاني بقيت كما هي، تنتظر لحظة إشتعال جديدة. الحزب يصرّ على أنّه «غير ملزم»، وكأنّ الإتفاق شأن خارجي لا يعنيه، فيما الدولة التي وقّعت الإتفاق باسمه تتصرف وكأنّها عاجزة عن فرض توقيعها على أرضها. أما إسرائيل، فاستغلت تردّد بيروت لتبرير استمرار وجودها في نقاط جنوبية استراتيجية، وضرباتها المحدودة لقادة الحزب، وكأنّها تقول: «تمام، لم تلتزموا، فلن نلتزم».

 

عام كامل ضاع في دوامة اللوم المتبادل. الدولة اللبنانية أعلنت، أكثر من مرة، أنّها الطرف الوحيد الذي يمتلك الشرعية، لكنها لم تترجم ذلك بخطوات كبيرة وفعلية. إكتفت بالتصريحات، ولملمت بعض السلاح من هنا وهناك، وتركت السلاح الكبير خارج الدولة ليحدد إيقاع الأمن والحرب القادمة. الحزب من جهته يواصل التمسّك بشروطه، ويصوّر أي خطوة نحو تسليم سلاحه وكأنّها تنازل وجودي، لا إلتزام بقرار وطني. أما إسرائيل، فتعرف أنّ ضعف القرار اللبناني يمنحها الذريعة الذهبية لتمديد وجودها، ومواصلة الضغط العسكري كلما احتاجت إلى قول شيء ما.

 

اليوم، وبعد سنة على الإتفاق، يبدو المشهد أكثر هشاشة من أي وقت مضى. الحرب ليست إحتمالاً بعيداً، بل ظلّاً يسير بمحاذاة الحدود، ينتظر الشرارة التي قد تأتي من صاروخ طائش، أوعملية اغتيال، أو قرار منفرد يُتخذ خارج المؤسسات الشرعية. وفي كل مرة تشتد فيها التوترات، يظهر لبنان مكشوفاً أمام العالم، دولة لا تستطيع فرض سيادتها، وحزب لا يعترف بسلطتها، وإسرائيل تتصرف بمنطق القوة وحده.

 

المفارقة القاتلة أنّ الجميع يعرف الحقيقة لكن لا أحد يتحمل مسؤوليتها. لو سلّم الحزب سلاحه، لاضطرت إسرائيل للإنسحاب، ولو انسحبت إسرائيل، لكانت حجة الحزب سقطت. لكن الطرفين يفضلان البقاء في الحلقة نفسها، بينما لبنان يُدار كأنّه مساحة متروكة بين مطالب الطرفين.

 

الدولة اللبنانية اليوم أمام إمتحانها الأصعب منذ سنوات، خاصة وأنّ وزير الدفاع الإسرائيلي «يسرائيل كاتس» كان أكثر من صريح بالأمس عندما قال «إذا لم يتخلَ حزب الله عن سلاحه حتى نهاية العام فسنعمل بقوة مرة أخرى في لبنان»، فإما أن تثبت أنّها صاحبة القرار الوحيد، وإما أن تبقى معلقة بين سلاح غير شرعي وحدود محتلة، وبين حرب يمكن أن تنفلت في أي لحظة. الإتفاق الذي كان يُفترض أن يشكل بداية مسار سلام نسبي، يتحوّل اليوم إلى شاهد على العجز، وعلى وطن تُرك تحت رحمة الحزب وإسرائيل معاً.

 

عام على وقف النار، لكن الحرب لم تتوقف فعلاً. توقفت فقط على الورق، بينما بقيت جذورها حية في الأرض، وفي السلاح، وفي العِناد، وفي غياب دولة تحكم وتقرر. وما لم يتغيّر هذا المشهد، ستبقى البيضة والدجاجة حجة جاهزة، وستبقى النار تحت الرماد تنتظر لحظة الإنفجار... والتي لا تبدو بعيدة جداً على جميع الأحوال.