ديوان المحاسبة يكسر الصمت.. ملفات وزراء الإتصالات تكشف هدرًا منهجيًا
ديوان المحاسبة يكسر الصمت.. ملفات وزراء الإتصالات تكشف هدرًا منهجيًا
الهدر لم يعُد مجرد تقارير، بل أصبح مسؤوليات واضحة وأرقام قابلة للتحصيل، ومساءلة فعلية لأول مرة منذ عقود.
خرج ديوان المحاسبة اليوم عن التقليد وأصدر حكمه القضائي بحقّ وزراء الإتصالات السابقين، ملزماً إيّاهم بإعادة عشرات الملايين للخزينة العامة، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ لبنان. لكن وراء الأرقام والقرارات، تكشف ملفات قصابيان والباشورة عن خلل هيكلي متكرر، وهدر منهجي يستحق الإستقصاء.
القرار القضائي، الصادر عن الغرفة الأولى برئاسة القاضي عبد الرضا ناصر وعضوية القاضيين محمد الحاج وجوزف كسرواني، لم يكتفِ بإدانة الوزراء. فقد كشف مسار الصفقات عن ثغرات تنظيمية، تضارب مصالح، وغياب آليات التحقق الفعلية. ففي مبنى قصابيان، أنفقت الدولة 10.8 ملايين دولاراً على إيجار مبنى غير صالح للإستعمال ولم يشغّل أبداً. تقرير «دار الهندسة» وصف المبنى بأنّه غير آمن، وهو ما يناقض ما ورد في العقد من معاينة سابقة. هنا يظهر دور الوزير السابق بطرس حرب الذي فسخ العقد، ما أنقذ الخزينة من خسارة إضافية تُقدّر بـ20 مليون دولاراً، وأكسبه إعفاءً من العقوبة.
أما مبنى الباشورة، فيمثل قصة أكثر تعقيداً وكلفة أكبر، دُفع 75 مليون دولاراً مقابل مبنى سبق بيعه بـ58.5 مليوناً، ما يعني تضخيماً في السعر بنحو 16.5 مليون دولاراً، إضافة إلى تكاليف إستكمال المبنى مرتين، وخسارة 123 موقف سيارات بقيمة 4.92 ملايين دولار. العقود وُقّعت دون مناقصات، والأسعار تجاوزت السوق بنسبة 20%، ونسخة العقد الوحيدة محفوظة لدى محامي الشركة البائعة، وهو نفسه محامي عقد الإيجار. كل هذه التفاصيل تشير إلى خلل منهجي في إدارة العقود وغياب الرقابة الداخلية.
القرار كشف أيضاً عن شبهات رشى وتبييض أموال، تخصّ شركتين تأسستا قبل أسابيع من توقيع العقد، حصلت إحداهما على قرض 22.17 مليون دولاراً، بالرغم من رأسمالها المتواضع، ما يطرح تساؤلات حول آليات التحقّق قبل توقيع الصفقات الكبرى. هذه الحقائق تعكس كيف يمكن لغياب الشفافية أن يتحول إلى إستنزاف مالي كبير، رغم وجود مؤسسة رقابية قوية.
التحوّل الإستثنائي في صلاحيات ديوان المحاسبة إستند إلى إجتهاد قضائي جديد أقرّ بأنّ الوزير مسؤول مالياً، ويمكن محاكمته مباشرة، دون الإكتفاء بتقارير للمجلس النيابي. هذا الإجتهاد منح الديوان الحقّ في إصدار سندات تحصيل مباشرة وفرض الغرامات، وهو ما لم يحصل منذ تأسيس الجمهورية.
القرار قضى بتغريم وزراء سابقين بمبالغ تراوحت بين 4.92 و11.3 مليون دولاراً، وأمر باستيفاء تعويض 2.75 مليون دولاراً من شركة الإتصالات، لكنه لم يتوقف عند ذلك، بل أحال شبهات الرشى وتبييض الأموال إلى النيابة العامة التمييزية والجهات الرقابية المختصة، في خطوة تؤكد أنّ هناك مساراً للمتابعة والمساءلة.
خلف هذه الأرقام، يظهر سؤال أكبر: لماذا بقيت المسؤولية السياسية محمية طوال عقود؟ كيف يمكن لعقد واحد أن يُنفّذ بهذه الكلفة الهائلة من دون تحقق جدي؟ وما هي الضمانات التي ستمنع تكرار هذا الهدر؟ قرار ديوان المحاسبة ليس مجرد حكم، بل دعوة لاستعادة الثقة بالرقابة المؤسسية، وكشف هشاشة الأجهزة الحكومية في إدارة المال العام.
في النهاية، هذا الحكم يمثل نقطة تحوّل، ليس فقط في مقدار الأموال المستردة، بل في قدرة مؤسسات الدولة على مساءلة المسؤولين ومحاسبتهم على القرارات التي تكلف الدولة عشرات الملايين. الهدر لم يعد مجرد تقارير، بل أصبح مسؤوليات واضحة وأرقام قابلة للتحصيل، ومساءلة فعلية لأول مرة منذ عقود.

