أدهم خنجر لن يمرّ في رميش..

أدهم خنجر لن يمرّ في رميش..

  • ٢٧ آذار ٢٠٢٤
  • جو حمّورة

قد تكون رميش بلدة صغيرة في خريطة لبنان، لكنها تحمل قصة كبيرة عن الصمود والإرادة.

قد تكون رميش بلدة صغيرة في خريطة لبنان، لكنها تحمل قصة كبيرة عن الصمود والإرادة. في قلب الجنوب اللبناني الغارق في تبعات مغامرات «حزب الله»، تتألق رميش كجوهرة نادرة في مساحات الطبيعة الساحرة. ولكن، ما كان أهل تلك البلدة الهادئة يدركون للحظة أنّ الظلام ينوي أن يحطّ في بلدتهم، لا لشيء عدا نية «حزب الله» قتل كل فرح يتجنب الإلتحاق في ركب مغامراته. 

ما نعرفه عن رميش منذ اندلاع المناوشات العسكرية العقيمة بين «حزب الله» وإسرائيل منذ خمسة أشهر هو التالي: بقي أهلها فيها، وتابعوا سهَرهم، وزارعة تبغهم وحراثة أرضهم. لم ينخرطوا في صراعات لا فائدة منها، لكنهم كذلك، وللأمانة، لم يطعنوا في الظهر. أمّنوا لأنفسهم حياة كريمة وأعفوا بلدتهم من الدمار كما حلّ بجيرانها. ربما كان «الحدث» الأبرز نهاية الأسبوع الماضي، حين تجمَّع أبناء البلدة في مسيرة دينية حاملين سُعف النخيل وأغصان الزيتون والسلام، غير مكترثين بما يجري من حولهم. فرح الشعانين بـ«دخول المسيح إلى أورشليم» على وقع «هوشعنا في الأعالي»، ، نقيض تام لتشييع شبان «على طريق القدس» على وقع «وفي حيّنا كان يغدو فتى، مضى للجهاد ولمّا أتى، عريساً كما القاسم ابن الحسن...». 
بدا النقيض واضحاً ونافراً، ثم أتى اليوم التالي ونصب «حزب الله» لبعض صواريخه في حقول الزيتون قرب ثانوية رميش، ما استدعى رداً من أهل البلدة عبر دقّ الأجراس والتضارب مع مقاتلي الحزب.

لم يرُق ل«حزب الله» هذا المشهد بالطبع. كيف يخوض الحزب «جهاده» الملتبس لون السواد والدماء، ويتحمّل تبعات الردود الإسرائيلية، فيما أبناء الجنوب«الآخرون»، غير مكترثين بكل ما يفعله. ربما غاب عن بال الحزب أنّ أحداً لم يوكله فتح الجبهات واقتناء الأسلحة. ربما لم يُحسن قراءة المشهد الآتي: أغلب الناس غير مؤيّدة للحرب، وحتى المتحمسون لها لا يضمرون خيراً ل«حزب الله»، ويتمنون خسارته فيها. قد يكون العيش في الخفاء تحت الأرض لسنوات طويلة غشاءً يُعمي النظر عن الحقائق. أو ربما، فائض القوة يمنع الناس عن رؤية الأمور بشكل أوضح.

ما علينا. دعونا من تراهات الإعلام الموجّه وبيانات «الأحزاب الوطنية» الرتيبة والمملة، فالناس الخارجة من أزمة اقتصادية كبيرة في الأعوام القليلة الماضية، تخاف من فقدان ما تبقى من مقومات صمودها وإقتصاد بلادها. وحده «حزب الله» يريد خوض مغامرة كمقامر مراهق، يرمي رصيده على طاولة المواجهة كل نهار، ويعود خائباً كل ليلة. أما الآن، فهو يريد الإقتراض من أهل رميش بعدما أوشك على الإفلاس. ولكن، لن يحصل منهم على فلس دعم. لا لأنّهم يخافون المغامرة، إنّما لأنّ الثقة براعي المواجهة معدومة.

«أدهم خنجر» هذا الزمن لن يمرّ في رميش كما مرّ سابقاً في بلدة عين إبل المجاورة عام 1920. لن تُحرق بساتين الزيتون وأبواب الكنائس هذه المرّة، ولن تُسبى الراهبات وتقطع الأرزاق. هذا الزمن مختلف، ولم يبقَ عدد كبير من هؤلاء الذين يهابون المواجهة. تشعر الناس بقلة حيلة« حزب الله »في المغامرة التي أدخل نفسه فيها، وأحاسيس الناس العامة نادراً ما تخطئ. فيما قلة الحيلة اليوم، قد تنقلب ضعفاً غداً، وحينها تعود كل جماعة إلى طورها وهدوئها.

ليست المواجهة في رميش طائفية بالمطلق، حتى وإن كان فيها بُعد طائفي. أي منطق يفترض إدخال أناس في مواجهة لا يريدونها؟ وأي قانون يُلزم الناس بمغامرات الآخرين؟ من قال أنّ أبناء كفركلا وعيتا الشعب والضهيرة وبيت ليف ومحيبيب وغيرهم يريدون الحرب أصلاً؟ ألم يكتفي الجنوب والبقاع خسائر بشرية ومادية؟

إنّ مشهد رميش، بواقعه الحالي، يعكس تحوّلات عميقة في العقليات والتوجهات السياسية للناس في الجنوب. فقد كانت مقاومة «حزب الله» تحظى بتأييد واسع من الشعب اللبناني في الماضي، لكن مع تصاعد التوترات والصراعات، بدأ الكثيرون يشككون في المسار الذي يتبعه الحزب ويتساءلون عن جدوى مواجهاته. رفض أهل رميش لمغامرات الحزب وإدخالهم فيها تأكيد على فئوية «حزب الله» نفسه وليس على فئويتهم، إذ أنّ قلّة من غير المنتمين إلى «البيئة الحاضنة» ما زالوا يرون «حزب الله» حزباً جامعاً وفاعلاً بإسم عامة الناس.

على الرغم من أنّ المواجهات مع إسرائيل قد أثرت بشكل كبير على الحياة اليومية للسكان، إلا أنّ الرغبة في تفادي مزيد من الدمار والخسائر تسود الآن بشكل أكبر. الناس يسعون للحفاظ على استقرارهم وسلامتهم ولا يرغبون في أن تتحوّل بلداتهم إلى ساحات للصراعات المسلحة، فلا عاقل متزن يريد رؤية منزله مدمراً أو حيّه غير قابل للسكن أو شجر زيتونه فحماً على جميع الأحوال.