«صرّخ عليهن يا ديب.. بلكي بيرجعوا»
«صرّخ عليهن يا ديب.. بلكي بيرجعوا»
أطلّت فيروز بصوتها العذب، لتقول لكلّ واحد منّا: «نحنا والقمر جيران»، وتجمع هذه الأغنية اللبنانيين المشتّتين بضوضاء العقائد والقضايا، تحت فضاء واحد يتّسع لكلّ محبيّ الموسيقى .
لتفهم الواقع اللبناني المتشابك، يمكنك أن تخرج من إيقاع الخطابات السياسية والكتب قليلاً، وتبصر بألحان بسيطة، ومشاهد قروية قديمة، ما قدّمه الأخوين الرحباني في مسرحياتهما، حيث خرجت الموسيقى من وراء الجبال، فأطلّت فيروز بصوتها العذب، لتقول لكلّ واحد منّا: «نحنا والقمر جيران» من منا عندما يكتمل القمر في دورته الشهرية لا يردّد بعفوية هذا الجملة، فتجمع هذه الأغنية اللبنانيين المشتّتين بضوضاء العقائد والقضايا، تحت فضاء واحد يتّسع لكلّ محبيّ الموسيقى من كل طيف ولون، فهي هوية واحدة، تجمع هويات مختلفة.
وإذا كان محمد عبد الوهاب، صاحب التغيير في الموسيقى العربية، فإنّ الأخوين رحباني صاحبا المرحلة الثانية للموسيقى العربية الجديدة، لخّصا دور المطرب، وأعطياه عظمة موسيقية، عبر نصوص تحرّك النفوس على إيقاع السياسة والمجتمع.
أحدث الأخوين ثورة في الشكل والأسلوب، ولم يغنّيا لأحد لو مهما علا شأنه، ففي مسرحية «ناس من ورق»، حيث أحد الشخصيات يحاول أن يغري شخصية ماريا بأن تغني للمرشح لرئاسة البلدية، فتردّ عليه ماريا: «لو بتدفع مليون ليرة ما منلتزم لحدا».
وهما لم يكتبا إلى لبنان وحسب، بل جعلا من القوافي تتّفق مع الخلافات داخل المجتمع الواحد.
ففي مسرحية «يعيش يعيش» تتمدّد فكرة القطيعة بين الحاكم والشعب وجاء في أحد أغانيها: «الرعيان بوادي، والقطعان بوادي»، مؤكّدة الإختلاف الكبير بين عالم الحاكمين، وعالم المحكومين، وكأنّما هي دلالة على حالة الطلاق بين المواطنين اللبنانيين والسلطة.
إنطلاقاً من هذه الفكرة فإنّ الكلمات في أغاني الرحباني ، لم تكن من أبيات شعرية، فيها الأوزان واللغة البليغة وحسب ، إنّما تميّزت عبر موسيقاها الفريدة وصوت فيروز، بهوية خاصّة، قريبة من وجدان الناس…
وكلّما حفظنا كلمات لأغاني الرحباني، فهمنا الواقع الذي نعيشه اليوم، وأحببنا الطبيعة، والقرى، والجبال، والفصول، هي إبنة المكان الذي نعيش فيه بأجمل تجلياته. وصدق نزار قباني حين قال:
«على يدي عاصي،تحوّلت الموسيقى من مُظاهرة
الى لُغةٍ صوفيّة
وتحوّل الحبّ من غَزوةٍ بربريَّةٍ
إلى صلاة..
وتحوّل الشّعر من قرقعة لغويّة
إلى جُملةٍ حضاريَّة .. وتحوَّلنا نحنُ ، من كائناتٍ ترابيَّة
إلى ضوءٍ مسموع…»
«زغيرة وما بتعرف بحرب الكبار، كانت عم تلعب خطَفها النّسر وطار»..
في مسرحية الملكة بترا، عبّر الأخوين رحباني في هذه الأغنية عن الضحايا الأطفال الذين يدفعون اليوم ثمن الحروب، وهي لعبة الكبار.إذ، تتميّز موسيقى الرحباني بهذه العفوية المطلقة، وذوق ليس فيه أي إلتباس، وبرهافة حسّ قلّ نظيرها، ونِظرة إنسانية تعلو فوق كلّ تفاهات العالم.
وبالتعاون مع أصحاب الأصوات العظيمة، استطاع الرحباني أن يدخلا القلوب بموسيقى عذبة، تنطلق في رحلة من التاريخ إلى الحاضر فالمستقبل.
وهذه الموسيقى ، أعطتها الكلمات سلطة عندما وصفت الواقع المعقّد أو الحياة أو الزمن...
وأيضاً لا يبتعد الأخوين رحباني بين«النوتات» الموسيقية الخاصّة بهما عن حلم الديموقراطية والحريّة
«عن مدينة ببالي بتلمع متل الحرية
مبنية علـ عدالة مكتوبة عالضمير»
وفي آخر «أيام سقراط»، أتت الدعوة إلى التغيير، الذي ندعو إليه اليوم
«يا عالمنا القديم
ندر علينا نتغيّر
لا الحقيقة بتتخبّى
ولا الحرية بتتأخّر»
ومع أنّ الحرية تأخّرت حتى يومنا هذا ولم يشرق عليها الفجر، فـ«يا حرية يا زهرة نارية» ، لنتذكّر تلك الموسيقى الخالدة ، تأكيداً على قول هيغل أنّ «الفن يتعايش مع الأهداف التاريخية»، ونتذكّر أنّ للموسيقى صوت خاص نتمنّى أن يعود إلى عراقته، حيث ينادي المجتمع اليوم إشتياقاً:« صرّخ عليهن يل ديب.. بلكي بيرجعوا».
وهذا كلّه، لأنّه لا يمكن أن تمرّ هذه الأغاني مرور الكرام، فهي نوع من الموسيقى التي تطبع في الذاكرة الجمعية، معبّرة عن هوية واحدة، حيث تتغزّل بالوطنية، الديموقراطية والحرية،والحب والطفولة والطبيعة والخالق، وإذا كانت قيمة الموسيقى تنحصر في التأثير الذي تُحدثه في السامع، فإنّ الوظيفة الصحيحة للموسيقى ليست نقل أصوات وإيقاعاتٍ جميلة تقتصر على بعث السرور في الحواس، وإنّما هي ترجمة للواقع وللإنسان بكليته فتجمع أبناء الوطن الواحد، على رغم اختلافهم.
وبحسب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون، فإنّ جمالية الموسيقى ليس لها من هدف سوى أن تطرح جانبًا أي رموز نغمية عابرة ، وتلك التعميمات الإصطلاحية المتعارف عليها في المجتمع، أي باختصار، كلّ ما يُخفي عنّا وجه الواقع، لكي تضعنا في مواجهة ذلك الواقع ذاته مباشرة.