إنتخابات أميركا.. حفلة الجنون بدأت والجميع مدعو
إنتخابات أميركا.. حفلة الجنون بدأت والجميع مدعو
تخيّل أنّ مقدم برنامج تلفزيوني وصاحب سلسلة كازينوهات قرر أن يترشح للرئاسة في بلادك. أي برنامج سياسي أوعقائدي يمكن أن يقدمه للجمهور؟ وما الذي يمكن أن يقوله ليحمل معنىً عميقاً أبعد من الإستعراض، التباهي والمناكفة؟
دونالد ترامب خير دليل على تسطيح العمل السياسي في العالم. هذا الاتجاه السائد في العالم يمثله الرجل الذي حكم أميركا لولاية رئاسية واحدة ويطمح جدياً ليرأس أقوى دولة في العالم لأربع سنوات جديدة. أتى الرجل من عالم برامج التلفزيون وحفلات ملكات الجمال وإدارة الكازينوهات، وهو يمازج في منطقه وتصريحاته ما بين رجل الأعمال والمصارع. ترامب، رجل الأعمال مثابر، صريح، ويسعى دائماً للفوز. كما لا يكترث جدياً لقواعد اللعبة السياسية وضوابطها، بل يسعى، كمصارع حرّ، إلى تهشيم خصمه بكل وسيلة ممكنة، فيضمن بالتالي الغلبة لنفسه.
تبدو الانتخابات الأميركية حالياً أشبه بحفلة جنون أكثر مما هي عملية لإظهار ديمقراطية النظام السياسي الأميركي. جو بايدن، الرئيس الحالي والمنسحب من السباق الرئاسي بسبب عمره المتقدم، كان له حصة مهمة من هذه الحفلة. سلسلة من الإخفاقات الكثيرة بُثت على الهواء مباشرة، فتارة يسقط أرضاً، وتارة أخرى يبدو تائهاً على المسرح، وأحياناً أخرى يفقد القدرة على الكلام المفهوم، ليصبح بعد ذلك موضوع هزل ونكات على وسائل التواصل الإجتماعي، ويرضخ، بعد ضغط من حزبه، لمطلب عدم استكمال ترشيحه الرئاسي.
ليست بديلته، كامالا هاريس، أقل جنوناً من رئيسها المباشر ورئيس الجمهورية الأميركية. وعلى الرغم من عدم شهرتها العالمية أو رواج تصريحاتها ومواقفها، إلا أنّ نِظرة سريعة على تاريخ مواقفها تشير إلى بعض الغرابة. تتكلم المرأة جملاً غير مفهومة أحياناً، وتكرر شعارات طويلة بشكل دائم عند كل سؤال يُطرح عليها، هذا من دون أن تُعطي موقفاً حقيقياً حول أي شيء.
قد تكون ذروة حفلة الجنون الأميركية قد حصلت عندما استهدفت محاولة اغتيال المرشح الجمهوري دونالد ترامب، ليخرج الرجل، بعدها مباشرة، «منتصراً» رافعاً قبضته كبطل ملحمي متغلباً على الموت ومحاولة قتله. لم يستقر الأمر على الاستعراض في غلبة الموت، بل راح الرجل يستعرض في اليوم التالي مهاراته في لعب الغولف، مصرحاً للإعلام أنّه «على عكس هؤلاء الذين حاولوا قتلي، أنا أصيب الحفرة وأنهي المهمة بشكل صحيح».
لا تقتصر حفلة الجنون على أعمال المرشحين للرئاسة، بل تمتد للجمهور كذلك. الإستقطاب الإنتخابي جلي وظاهر في الشارع الأميركي، ويمكن تحسسه من مئات آلاف المقاطع المنتشرة على وسائل التواصل الإجتماعي حول الإنتخابات، وجلّها تهكم على الأخصام ونقد قاسٍ وجارح. يصعب حتى إيجاد مقاطع مصورة لنقاش هادئ وراقٍ بين أخصام السياسة، دون أن ترى وتسمع النكات والهزل والجنون لدى أصحابها.
والجميل في الانتخابات الأميركية أنّ مراقبيها عن كثب يتخطون الحدود الأميركية، ما يجعلها أولوية لدى جميع سكان الكوكب. عالمية الإنتخابات الأميركية تجعل من حفلة الجنون حفلة عالمية، يسودها منطق الهزل والتسلية والإستعراض أكثر من أي منطق آخر. ربما «هذا ما يطلبه الجمهور» لا أكثر، أو أنّ منطق الرقي في الكلام والتصرفات والبرامج بات، ببساطة، من زمن مضى.
في المناظرات الرئاسية الأميركية القديمة، كان يمكن للمتلقي أن يسمع حججاً مهمة، وأسلوب نقاش هادئ ورصين، كما سلسلة من المواقف المتقدمة والذكية. في المقابل، بدت المناظرة الأخيرة بين بايدن وترامب أشبه بنقاش في مقهى بين إثنين لا يفقهان شيئاً، ولكن يدّعيان المعرفة. الأول تكلم دون أن يفهم عليه كُثر، فيما الثاني تكلم بقساوة جارحة ليفتعل أزمة مع خصمه لا أكثر.
الدنيا تغيّرت، وهذا صحيح. ما عاد الرقي والمنطق والحجج العلمية أموراً سائدة، لا عند المسؤولين ولا عند الجمهور حتى. قد تكون التكنولوجيا قد أنتجت جيلاً مائعاً سطحياً، يكترث للسرعة واللهو أكثر من إكتراثه للعمق والمعرفة. هذا الجيل الجديد المعروف أميركياً بـGeneration Z، الآتي مباشرة بعد جيل الـMillennial، المتشبث، ولو قليلاً، ببعض قيم الماضي. لا لوم على الساسة في أميركا أصلاً، طالما الجمهور والناخب الجديد يبحث عن تلقي الاستعراض والتسلية لا عن الجدية والرصانة.
نعيش في عالم تنقصه الرصانة. أنظر من حولك، مَنْ مِن أترابك يأتي على موعد لقائك به على الوقت؟ مَنْ مِن حولك يتقن فن الإعتذار؟ أو يعطيك مرجعاً عملياً أو رقماً دقيقاً عند نقاشك معه؟ لا داعي للاستغراب من جنون ترامب وبايدن وهاريس، فكلنا مجانين بطريقة أو أخرى. الفرق الوحيد أنّ هؤلاء الثلاثة يملكون منبراً وعشرات الكاميرات التي تنقل كلامهم إلى مسامع العالم.
كان يُقال إنّه «إن أردت أن تعرف ماذا سيجري في بلادك بعد عشرين سنة، فعليك متابعة ما يجري في أميركا الآن». لا يزال هذا القول صحيحاً، فكل ما يُنتج في الغرب يأتي إلينا بعد حين، فلا ضرورة لنستغرب إن كان سياسيونا في لبنان سيظهرون بسطحية وجنون إضافي بعد سنوات قليلة من الآن.