البابا لاوون الرابع عشر يزور دير الصليب: رحلة إلى قلب الخدمة الإنسانية

البابا لاوون الرابع عشر يزور دير الصليب: رحلة إلى قلب الخدمة الإنسانية

  • ١٨ تشرين الثاني ٢٠٢٥
  • تيريزا كرم

لم يبدأ دير الصليب بحجارة، ولا بخطة هندسية، بل بما رآه أبونا يعقوب في عيون المرضى والمهمشين الذين غيبهم الآخرون.

في 30 تشرين الثاني 2025،تتوجه الأنظار إلى لبنان مع زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى دير الصليب، محطة ليست عابرة في برنامج الزيارة، بل رسالة إنسانية وروحية تتجاوز البروتوكول إلى العمق. فالزيارة تأتي في وقت يُرزح فيه اللبنانيون تحت وطأة الأزمات المتعددة، حيث القلق يثقل يوميات الناس والخوف من اندلاع حرب جديدة يلوح في الأفق. ومع كل هذا التوتر، تصبح زيارة البابا نسمة رجاء، تذكّر اللبنانيين بأنّ الإنسانية والرحمة ليستا مجرد شعارات، بل أفعال ملموسة يمكن أن تغيّر حياة الإنسان الواحد، وتبعث الأمل في قلب مجتمع مُنهك.

من هو أبونا يعقوب الحدّاد الكبّوشي؟

تبدأ القصة منذ أكثر من قرن، مع رجل عاش الإيمان كفعل محبة. وُلد خليل الحدّاد في أوّل شباط 1875 في بلدة غزير اللبنانية، لوالدين صالحين تعلّموا تقوى المسيح وقيم الفضيلة. منذ طفولته، كانت الأم معلمه الأول في الصلاة والدعم الروحي، إذ قالت له: «يا ابني في ساعات الشدّة، صلِّ بمسبحة أمّك». درس خليل في مدارس الرعية في بلدته، ثم انتقل إلى مدرسة القدّيس لويس، ولاحقًا إلى مدرسة الحكمة في بيروت، حيث تخرج عام 1891.

في الإسكندرية عام 1892، عمل في التعليم لمساعدة والديه على تربية إخوته، وهناك سمع نداء الدعوة ليترك العالم ويتبع المسيح. عاد إلى لبنان والتحق بدير مار أنطونيوس خشباو للرهبان الكبّوشيين عام 1893، وحمل إسم الأخ يعقوب بعد أن تلقى ثوب الإبتداء. عبر سنوات دراسته وتدرجه في الرهبنة، أعلن نذوره المؤبدة عام 1898، ثم رُسم شمّاسًا ورسوليًا، وصولًا إلى الكهنوت في 1901، حيث أقام قدّاسه الأول في كنيسة مار لويس في بيروت.

كان أبونا يعقوب مثالًا للكاهن الملتزم بالخدمة، لم يقتصر همّه على بلده فحسب، بل امتد إلى فلسطين والشام وبغداد، بل وزار الأماكن المقدسة في فرنسا وإيطاليا، والتقى البابا بيوس العاشر عام 1910. وفي زمن الحرب العالمية الأولى، تولى إدارة الرهبنة والكنائس في لبنان بعدما اضطر رفاقه الفرنسيون إلى المغادرة. كان يؤمن بأنّ الكاهن هو سفير الله على الأرض، وأّن دوره يتمثل في خدمة الإنسان والروح، وليس في المظاهر أو المناصب.

دير الصليب: رسالة متجذرة في الخدمة الإنسانية

لم يبدأ دير الصليب بحجارة، ولا بخطة هندسية، بل بما رآه أبونا يعقوب في عيون الناس المنسيّين.  كان يزور القرى والمدن، يحمل حقيبة صغيرة وصليبًا كبيرًا، وعيناه تقعان دائمًا على أولئك الذين لا يريد أحد النظر إليهم: المشردون، المرضى، المضطربون نفسيًا، الذين يُختصرون بكلمة «مجانين» في مجتمع لا يعرف سوى الإخفاء.  بعض الشهادات الحيّة تروي أنّ أبونا يعقوب، خلال إحدى تنقلاته في عشرينيات القرن الماضي، رأى رجلاً مريضًا نفسيًا مربوطًا إلى شجرة كي لا«يزعج» الناس. إقترب منه، فكّ قيوده، ومسح على رأسه، وقال جملة ظلّت تُردّد في دير الصليب حتى اليوم:« ليسوا مجانين .. هؤلاء جراح المسيح الظاهرة».

في عام 1919 أسّس أبونا يعقوب دير الصليب، ثم حوّله إلى مأوى عام في 1937، ومنه إلى مستشفى للأمراض العقلية والنفسية عام 1951 بعد الإعتراف الرسمي من الحكومة اللبنانية. أراد المكان أن يكون حضنًا لمن لا يجدون مكانًا آخر في المجتمع، أولئك المرضى والمهمشين الذين غيبهم الآخرون، وامتدت رسالته لتشمل مختلف الطوائف والأديان. كان يقول دائمًا:

«أنظروا إلى النبع، فهو لا يسأل العطشان من أي بلد هو»

اليوم، يضم المستشفى حوالي 1055 سريرًا ويستقبل نحو 2200 مريض سنويًا، ويستمر في أداء رسالة مؤسسه التي تقوم على الرعاية الإنسانية بلا تمييز، والخدمة للأكثر حاجة والحرمان. هذا الموقع يمثل أكثر من مستشفى أو صرح طبي؛ إنّه رمز لاهوتي وروحي، حيث يلتقي الألم بالصليب، وحيث تُعالج الجراح التي لا تراها أعين المجتمع.

رمزية زيارة البابا

زيارة البابا لا تقتصر على إجراء ديني أو مناسبة رسمية، بل هي إنحناءة أمام الذين لا يراهم أحد. في زمن تتزايد فيه الأصوات العسكرية والصراعات السياسية، تصبح هذه المحطة رسالة واضحة، القداسة تبدأ من الإهتمام بالإنسان، من تقديم العون للضعيف، ومن الإعتراف بأنّ كل حياة لها قيمة، وأن الرجاء يمكن أن يولد من لمسة رحمة صغيرة، حتى لو كانت في أضيق زاوية مستشفى نفسي.

إنّ اختيار دير الصليب يعكس أيضًا تقدير الكنيسة للمؤسسات التي تحافظ على كرامة الإنسان، وتحافظ على إرث أبونا يعقوب الكبّوشي الذي كرّس حياته لخدمة المرضى والمحتاجين والمهملين من جميع الخلفيات. إنّه درس للسياسيين والمجتمع المدني على حد سواء، لا يمكن لأي مجتمع أن يُعتبر متقدمًا إذا تجاهل ضعفاءه ومهمشيه.

زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى دير الصليب ليست حدثًا عاديًا. إنّها دعوة للبنان كله ليتذكّر أنّ الإنسانية تبدأ من الحضن، وأنّ الرجاء لا يزال ممكنًا، وأنّ الخدمة ليست رفاهية بل واجب، وأنّ الصليب، في أبسط صورته، يعني التزامًا بالآخرين قبل أي شيء آخر.

في زمن تختلط فيه أصوات الحرب باليأس، يأتي البابا ليؤكد أنّ الضوء لا يزال موجودًا، وأنّ الرحمة أقوى من العنف، وأنّ الإنسان يستحق دائمًا أن يُحتضن ويُشفى.