صنع الله ابراهيم.. الرواية في مواجهة «اللجنة» الأبدية

صنع الله ابراهيم.. الرواية في مواجهة «اللجنة» الأبدية

  • ٢٢ آب ٢٠٢٥
  • كاسندرا حمادة

دخل القاعة لا يعرف لماذا استُدعي، ولا من هؤلاء الذين يواجههم خلف الطاولة... لحظة غامضة، لكنها كانت بداية مواجهة طويلة مع السلطة، إمتدت على صفحات الأدب العربي لعقود

«دخلت القاعة الكبيرة فوجدتني أمام لجنة مكوّنة من أربعة رجال. لم أعرف لماذا استُدعيت، ولا ما المطلوب مني. كانت الأسئلة تأتي متقطعة، غامضة، لا توصل إلى شيء.» (من رواية «اللجنة» لصنع الله ابراهيم). عندما تقرأ هذه الجملة ترى أمامك مشهدية سردية غامضة تحاكي حالة معيّنة، تدخل القاعة مع هذه الجملة، ليدور في رأسك مئة سؤال وسؤال.. تكمل الرواية، لتغوص في مكان آخر، إنّها السلطة السياسية! هكذا تميّز بنقده السياسي عبر السرد، إنّه الكاتب المصري صنع الله ابرهيم الذي توفي هذا الشهر عن عمر يناهز 88 عامًا، بعد معاناته من الإلتهاب الرئوي. 

رواية «اللجنة»، هي إنعكاس لجوّ الغموض المريب الذي يحيط بالمؤسسات السلطوية. المواطن لا يعرف من الذي يحاسبه، ولا لماذا، وهو واقع في شبكة من الإجراءات غير المفهومة. اللجنة في السياق الروائي، تمثل جهاز مخابرات سريّة تقوم باستنطاق المواطنين، وتطرح عليهم الأسئلة لمعرفة حقائقهم الفكرية والعاطفية. فهي بمثابة نظام للمحاسبة والمكاشفة السياسية ورمز للتعذيب الإنساني واستمرار للسجن ومصادرة الحقوق.
تدين الرواية أجهزة القمع التي تصادر حقوق الإنسان وتعبث وتهين المثقفين الفاعلين بشرفهم وأخلاقهم. كما تشير الى المتغيرات التي عرفتها مصر بعد إنتقالها من الحقبة القومية الى حقبة الإنفتاح وسياسة الاقتصاد الليبرالي المبني على الإستهلاك واستيراد المنتجات الأجنبية وتراجع نمو القطاع العام وفشله في تلبية حاجات المجتمع..
يُعد صنع الله إبراهيم من أبرز الكُتّاب المصريين الذين ربطوا بين الأدب والسياسة ، بين الكتابة الإبداعية والتوثيق النقدي، وبين الرواية والواقع. لم تكن أعماله الأدبية، ومن بينها رواية «اللجنة»، مجرد سرد فني، بل كانت بمثابة مرآة فكرية تنعكس فيها مواقفه السياسية ونقده العميق للأنظمة العربية، لا سيما النظام المصري في عهد السادات. في هذا السياق، تتجلى «اللجنة» كنصّ سياسي بامتياز، يكشف عن آليات السلطة، ويطرح تساؤلات جوهرية حول الحرية، والبيروقراطية، والدولة الحديثة.
لقد سخّر الصحافة في خدمة الرواية، هو صاحب الفكر اليساري، مواقفه جذرية من الإستعمار والرأسمالية، متميزاً بقدرته على ربط القضايا المحلية بالسياق العالمي.
صنع الله إبراهيم تجنّب الخطاب الأيديولوجي المباشر، ولم تكن رواياته أبواقًا حزبية، بل نصوصًا مفتوحة على تعدد التأويل، تنطلق من رؤية إنسانية لتسائل كل البنى التي تنتج القهر: من النظام الأبوي، إلى الدين المؤدلج، إلى اقتصاد السوق.
«إنّ تلك الرائحة ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان على نفسه، وهي ليست نهاية، ولكنها بداية أصيلة لموهبة أصيلة، بداية فيها كل ميزات البداية، ولكنها تخلو من عيوب البدايات لأنّها أيضا موهبة ناضجة».. هذا ما قاله الكاتب الكبير يوسف إدريس عن صنع الله ابراهيم، واصفاً أولى كتاباته «تلك الرائحة» من أهم الكتب التي تسلّط الضوء على قضايا الفقر والتهميش والفساد في المجتمع.
هذه الرواية  تحديداً مستوحاة من تجربة الكاتب الشخصية بعد خروجه من السجن السياسي، لكنها لا تحكي عن السجن ذاته، بل عن الفراغ والعجز الذي يواجهه السجين السياسي حين يعود إلى مجتمع تغيّر أو لا. فالشخصية الرئيسية في الكتاب، تعاني من الإنفصال عن الواقع، والإغتراب عن الناس، والإنكسار، يقف أمام سلطة دولة تراقب وتخترق حتى الأفكار، يقول: « إنّ من واجبي لا أن أقف أمامكم وإنّما أن أقف ضدكم!»
وهكذا يتبين عبر الروايتين المذكورتين «اللجنة» و«تلك الرائحة»، كيف كان الكاتب صنع الله ابراهيم يمزج بين السياسة والواقع والرواية لتتجلّى خصائصه الكتابية:
في  الواقعية الإجتماعية، والبعد السياسي في الأدب، والإهتمام بالطبقات المهمشة، لغته سهلة ومباشرة، وهذه الخصائص زادت من تأثير أعماله وانتشارها بين مختلف شرائح المجتمع. قيمته أنّه جذب الكثير من الشباب في مجتمعات لا تهوى القراءة الى تذوق محتوى يحاكي واقعهم، ومنحاز للحقيقة، موجز، يقلّص الكلمات لتختزن أكبر نسبة ممكنة من المعنى كمن يقلم الشجرة ويزيل منها كل غصن زائد.

كتابته شكل من أشكال المقاومة الثقافية، لها دور اجتماعي وسياسي ايضاً.  لقد آمن  صنع الله ابراهيم بأنّ الكاتب يجب أن يكون شاهدًا على عصره، وأن يفضح الإستغلال والاضطهاد الذي يتعرض له الإنسان. 
لكن السؤال الذي يطرح نفسه ، فهل حقاً استطاع هذا الكاتب أن يغيّر من ملامح الوعي العربي؟ 
لقد جعل من الكاتب شاهدًا ومحاسبًا على السلطة، لا شريكًا في تبريرها. وعرّف المثقف على أنّه «ضمير الشعب» لا «ناطق باسم النظام». نقل نظرة الإنسان المقلصة والمحايدة الى العالم ووضعها أمام «التلسكوب» الموجه الى الأشخاص والأشياء لتقريب المسافة الكبرى التي تصنعها الحياة اليومية لتشكيل موقف من الواقع والمجتمع والسلطة.، وبذلك حرّر الواقع المقيّد وغير المعلن، يقول في «اللجنة»: «إنّ التعليمات المرفقة بالأدوية الاجنبية المباعة فى بلادنا ، توصى باستخدام جرعات اكبر من تلك التى توصى بها المرضى فى بلادها الاصلية . فلماذا ؟»
سيرة ذاتية
وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة في 3 آب 1937. كان والده موظفًا مدنيًا من الطبقة المتوسطة العليا، بينما كانت والدته، تعمل. التحق إبراهيم بجامعة القاهرة لدراسة القانون عام 1952. وهناك، انضم إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني (حدتو)، وهي حركة ماركسية.
في عام 1959، تم اعتقال إبراهيم، على عهد عبد الناصر وصدر بحقه حكم بالسجن سبع سنوات من محكمة عسكرية. أُفرج عنه في عام 1964 بمناسبة زيارة نيكيتا خروتشوف لمصر لحضور إفتتاح السد العالي بأسوان. في عام 1968، كان إبراهيم واحدًا من المثقفين المصريين الذين ساهموا في المجلة الأدبية الطليعية غاليري 68. 
بعد خروجه من السجن إشتغل في الصحافة لدى وكالة الأنباء المصرية عام 1967، ثم عمل لدى وكالة الأنباء الألمانية في برلين الشرقية عام 1968، حتى عام 1971، وبعدها اتَّجه إلى موسكو لدراسة التصوير السينمائي، والعمل على صناعة الأفلام. ثم عاد إلى القاهرة عام 1974 في عهد الرئيس «السادات»، وتَفرَّغ للكتابة الحُرة كليًّا عام 1975.
في العام 2003 رفض تسلّم جائزة الرواية العربية، مبرراً السبب بأنّها «صادرة عن حكومة تقمع شعبنا وتحمي الفساد».  نال العديدَ من الجوائز العربية المهمة، مثل «جائزة إبن رشد للفكر الحر» عام 2004، و«جائزة كفافيس للأدب» عام 2017.
إنتقد ثورة يناير معتبراً أنّها لم تكن ثورة كونها بلا هدف ولا برنامج بل «هي إنتفاضة شعبية مطلبها الأساسي هو تغيير النظام، رغم أنّ معنى ذلك لم يكن واضحاً».