الأحزاب والحداثة.. لبنان العالق في زمن «الغبار»

الأحزاب والحداثة.. لبنان العالق في زمن «الغبار»

  • ٢٢ أيلول ٢٠٢٥
  • جو حمّورة

بنان اليوم لا يحتاج إلى أحزاب ترفع لافتات أكثر، بل إلى أحزاب تهدم جدرانها الداخلية. تسمح للشباب أن يصنعوا مساراً لا أن يسيروا في طابور، إلى حياة حزبية لا ترى في الإختلاف خيانة ولا في النقد طعناً.

ليست المشكلة في الأحزاب اللبنانية أنّ مقارها ضيقة أو أنّ ميزانياتها محدودة، ولا أنّ شعاراتها تبهت مع الزمن وتبهت صور قادتها على الجدران.

 

هذه تفاصيل عابرة. المشكلة الحقيقية هي أنّ روح الأحزاب أسيرة في قوالب أكل عليها الدهر، تتكئ على التاريخ كمن يتكئ على عكاز، وترفض أن ترى أنّ العالم تغيّر، وأنّ شباب اليوم لم يعودوا أبناء الطاعة ولا أسرى الشعارات.

 

المأزق يبدأ من هنا: من عقل حزبي لا يزال يظن أنّ الإنتماء فعل وفاء أعمى، وأنّ الحزبي يولد ليصفّق ويموت لأجل غيره. يغفل أنّ الشاب الذي يكبر في زمن الذكاء الإصطناعي لا يرضى أن يحيا في زمن بيانات خشبية تُقرأ كما تُقرأ نشرات الطقس. هل من بيان ممل أكثر من بيانات الحزب السوري القومي الاجتماعي، إن لمحتها مرة؟ هل من شعارات مسلوبة الحياة وأقدم من شعارات المردة أو الحزب الشيوعي؟

 

بيانات رتيبة، لغة ميتة، تذكّر الناس بأنّ السياسة لم تقترب بعد من روح عصرهم. من النادر أن ترى فيديو تسويقي مشوّق لحزب ما، أو محتوى يلتقط نبض الجيل الجديد. كل شيء يبدو وكأنّ الأحزاب تكتب لنفسها لا لجمهور ينتظر أن يتفاعل. تريد دوام إقتناع جمهورها أكثر من إقناع غيرهم.

 

لبنان، بتناقضاته، كان يُفترض أن يكون أرضاً خصبة لولادة أحزاب عصرية، مرنة، قادرة على إلتقاط قلق الأجيال وصخبهم. لكنه ظلّ أسير مشهد واحد: مكاتب حزبية تشبه الأرشيفات، مؤتمرات تكرّر نفسها، وقيادات ترفض أن تُغادر الكرسي حتى لو غادرها العمر. حتى الأحزاب العقائدية، التي تقدّم نفسها كفكرة عقائدية كبرى، ما زالت تُعلّم «أصول العقيدة» بالطريقة نفسها التي علّمتها قبل نصف قرن: صفوف رتيبة، نصوص جامدة، كأنّ الحداثة لم تمرّ يوماً من هنا.

 

وفي الشارع، تتجسد الأزمة بلا تجميل: لوحات مكاتب حزبية مغطاة بالغبار يمكن لأي مار أن يراها، أعلام شبه ممزقة ترفرف بلا روح، واجهات توحي أنّك أمام مستودع قديم أكثر مما توحي أنّك أمام مؤسسة سياسية حيّة. أي صورة أبلغ من هذه لفضح شيخوخة البنية الحزبية؟ وكيف يمكن لشاب يبحث عن معنى أن يجد نفسه في مكان يبدو أقرب إلى محل مقفل منذ سنوات؟

 

الحداثة في السياسة ليست رفاهية، بل شرط للبقاء. كما أنّ المدن التي لا تجدّد عمرانها تتحول إلى متاحف، كذلك الأحزاب التي لا تجدّد لغتها وأساليبها تتحول إلى هياكل فارغة. والجيل الجديد، الذي يعيش في زمن السرعة والتعدّد والإختلاف، لا يمكن أن يُحشر في قوالب مغلقة صيغت في سبعينيات القرن الماضي. إنّه جيل يطلب أن يُخطئ ويُجرّب، أن يُناقض ليَكتشف، أن يعيد تعريف الوطنية بعيداً عن صورة الزعيم أو هالة القائد.

 

لكن ماذا قدّمت الأحزاب اللبنانية لهؤلاء؟ برامج تتكرر منذ عقود، شعارات مطلية بطلاء جديد فوق جدران قديمة، وتقاليد تنظيمية تُشبه الطقوس أكثر مما تشبه السياسة. هل تعلم أنّ مخيمات حزب الكتائب اللبنانية لا تزال، في مضمونها وأسلوبها، هي نفسها من ثلاثينيات القرن الماضي؟ هل تعلم أنّ البنية التنظيمية لحزب الوطنيين الأحرار لا تزال نفسها منذ الستينيات؟ وحتى حين تحاول أن «تتجدد»، تفعل ذلك بالزينة: بحساب على «إنستغرام»، أو مؤتمر للشباب ينتهي بتصفيق لزعيم شائب ما زال يُحاضر عن «المستقبل».

 

إنّها ليست أزمة أفراد بل أزمة بنية. الأحزاب اللبنانية بُنيت لتدوم كعائلات، لا كمنصات أو مساحات حرّة. بنيت لتحرس الزعامات، لا لتفتح الأبواب للأفكار. ولهذا السبب يغادرها الشباب، أو لا يقتربون منها أصلاً. فكيف يمكن لجيل يعيش على أسئلة مفتوحة أن يجد نفسه في مؤسسات تقدّس الإجابات الجاهزة؟

 

لبنان اليوم لا يحتاج إلى أحزاب ترفع لافتات أكثر، بل إلى أحزاب تهدم جدرانها الداخلية. يحتاج إلى مؤسسات تسمح للشباب أن يغيّروا لا أن يتغيّروا، أن يصنعوا مساراً لا أن يسيروا في طابور. يحتاج إلى حداثة سياسية، لا كشعار إنتخابي، بل كأسلوب حياة حزبية لا ترى في الإختلاف خيانة ولا في النقد طعناً.

فالسياسة، في معناها الأعمق، ليست طاعة بل مشاركة، ليست وراثة بل مغامرة. والحداثة الحزبية ليست ترفاً بل شرط بقاء. وما لم تدرك الأحزاب اللبنانية هذه الحقيقة، فإنّها ستظلّ تُعيد إنتاج نفسها إلى أن تستفيق ذات يوم وتجد أن الناس هجروها، وأنّ السياسة صارت تجري في مكان آخر، بعيداً عنها، في فضاء مفتوح لا يعترف ببيروقراطياتها ولا بقداستها.