قبّة «باندا» الحديدية فوق غزّة
قبّة «باندا» الحديدية فوق غزّة
في التاسع عشر من آذار، عام ٢٠١٨، رحل «سودان»، آخر ذكور فصيلة وحيد القرن الأبيض، وحيداً، عن عمرٍ ناهز الخمسة والاربعين عاماً. نهايةٌ سوداء للفصيلة البيضاء. حظِي سقم «سودان» بإهتمامٍ كونيّ عارمٍ، لم تحظَ به، مثلاً، دموع أمّهات السودان أو مآسي أطفال غزّة. سرٌّ ما يكمن خلف هذا الشغف العالمي بأجناسٍ وفصائلَ على مشارف خطوط نهاياتها. ربّما لأنّ ذلك ينفخ في غرورنا البشري مشاعرَ التفوّق والتحكّم بإنقاذ أو إفناء أجناسٍ نعلوها في سلسلة الغذاء.
إنّها من سخريات القدر ألّا يُبدي العالم تجاه بشر في مطاحن الإبادات والمحارق والتهجير وجدران الفصل العنصريّ، مقدارَ الشغف ذاته الذي يُبديه لإنقاذ فيلٍ آسيويٍّ مثلاً أو نحلةٍ أو فقمةٍ أو سلحفاة بحر. فالعالم الملقّب بالمتحضّر وصل، أصلاً، إلى إعلان باريس وإتّفاقيات جنيف، منتصف القرن الماضي، على متن قطارٍ مُدَّت سككه بحديد الإبادات ونار المحارق ومطارقَ الاستعباد، ناهيك عن زيارتين نوويّتين للجحيم في هيروشيما وناغازاكي.
نجح الغرب بتسويق حلمِ تلوّن العصر الجديد بالسلامة والمساواة والحريّات وقصص النجاح، رغم كثرة وهول كوابيسه. فحملات التسويق، أصلاً، هي قمّة التلاعب والمبالغة في جودة المنتج.
شعر المطمئنّون لألوان الزمن وعدالته بحمايةِ قبّةٍ حديديّةٍ من إتّفاقيّاتٍ ومحاكمَ وبروتوكولاتٍ ومواثيقَ أمميّةٍ ودوليّة. أكسبت تحتها نضالات رفع مناسيب الإنسانيّة شعبيةً هائلةً، مثل معارك حماية الأطفال وحقوق المرأة والحريّات الشخصيّة وحفظ البيئة وخفض البصمات الكربونية وإنقاذ ممالك الحيوان من الأذى وشبح الإنقراض، وبدا كلّ شيءٍ على خير ما يرام.
خارج مسارح التسويق، لم يكن كلّ شيءٍ بخير. إذ رافقت مسيرةَ قبّة الحماية الأمميّة تلك شوائبُ بنيويّةٌ عديدة، من أولى مسوّداتها حتّى آخر مناورات عصْب الأعين عن دفن الإنسانيّة والإنسان تحت أنقاض مدارس غزّة ومشافيها، وعلى مرأىً ومسمعٍ من آلاف شاشات البثّ. شوائبُ أغرقت حماية الإنسان وحقوقه في مستنقع البيروقراطيّة وإنتقائيّة التوصيفات وحواجز حقّ النقض لعمالقة القوّة.
ارتكاباتٌ أم فظائعُ؟ إباداتٌ أم مجازرُ ؟ ما هو التوصيف الدقيق لمقتل عشرةَ آلاف طفلٍ فلسطينيّ؟ أيّ خانةٍ هي الأنسب ليُوثَّق تحتها قصف مدرسةٍ أو مستشفى؟! تخيّل كم تبدو هذه التساؤلات عبثيّةً لعائلةٍ قد لا يغفل الصاروخ المقبل سقفها. تخيّل أيضاً عبثيّة أن تصبح عائلة أحدهم بأكملها أضراراً جانبيّة. لعبة التوصيفات، أحياناً، توازي بقسوتها فوّهات المدافع.
أحياءٌ وبلداتٌ ومدنٌ تُسلب قابلية العيش، وعائلاتٌ بأكملها تهجر سجلّات القيد. هل ذلك اعتداءٌ أم دفاعٌ عن النفس؟ محتلّون أولئك الذين يقومون به أم أصحاب حقّ؟ هل سقطت صفة الإحتلال عنهم بمرور الزمن؟ لماذا تسقط عن الصهيونيّ في فلسطين ولم تفعل عن السوڤياتيّ رغم امتداد سطوة الأخير على خمس عشرة دولةٍ وسبعة عقود؟ أيُّ معيارٍ يحكم صحّة الإجابة ؟
لن نرى قريباً في مجلس الأمن قراراً لوقف النار عن غزّة. حقوق النقض هناك أسمى من حقوق الإنسان. والسياق القانونيّ غارقٌ في مستنقع التوصيفات والمسمّيات. غزّة تُمحى. لا يهمّ إن كان ذلك جريمةَ حربٍ أم جريمةً ضدّ الإنسانيّة. المهم أنّها جريمة؛ جريمة قتل أطفال غزّة وأمّهاتها وأطبّائها وصحافيّيها. المجرم معروف. تحميه قبّةٌ دوليّةٌ متواطئةٌ وأخرى حديديّةٌ متطوّرة، فيما الغزّاويون متروكون لسادية العدوّ. لا تحميهم قببٌ ولا مواثيقُ ولا قوانين.
ربّما إن استطاعوا تهريب عددٍ كافٍ من دببة الباندا عبر الأنفاق ونشروها بين الأحياء والحدائق والمدارس والمشافي في غزّة، قد ترتدع آلة القتل الإسرائيليّة، تجنّباً لهفوةٍ غبيةٍ من قنبلةٍ ذكيّة تؤذي، سهواً، أسود العينين. فيهبّ العالم، حينها، لحماية الحيوان البريء. قد تُهدي قبّة «باندا» الحديدية تلك أهل غزّة قليلاً من الحماية والأمان، إلى حين قيام نظامٍ عالميٍّ جديد يؤمن جدّياً بحقوق الإنسان… أيّ إنسان.