التربية على الخوف.. سجن بلا قضبان
السؤال المستتر وراء «كيف نتربّى على الطائفية؟»، ومظاهره في سلوكيات اللبنانيين أكان في حواراتهم أم في مواقفهم التي سرعان ما تنزع عنها، عند كلّ مفترق طرق، لباس المواطنية والشراكة، لتعود إلى حدودها الطائفية الجغرافية داخل كيان الوطن. والسؤال الإشكالي لهذه الظاهرة في لبنان، المتعدّد الطوائف والإنتماءات ، هو كيف يتحاور اللبنانيون في مواضيع جديّة ذات محتوى ديني-إجتماعي مباشر؟
يبدأ الحوار هادئاً عقلانياً، وبعد دقائق معدودة ترتفع حدّة النقاش ليتّخذ منحىً إتّهامياً دفاعياً، عارياً من أي ضوابط. هذا ما أظهرته مجموعة من الشباب والطلاب الجامعيين، عبر تجسيدها لحوار قام بين فريقين: محمد وعلي، فادي وحنا.
محمد وعلي: شو جايي تناقش ربنا؟
فادي وحنا: الدين المسيحي جوهر
محمد وعلي: نحن بحاجة إلى علاقات منظّمة وهي غير موجودة إلّا عند الإسلام
فادي وحنا: الإسلام يحدّ من حرية الإنسان، فنحن بحاجة للمسيحية الشاملة في الدولة.
حاجة الإنتماء
ليس جديداً على آذان اللبنانيين هذا النوع من الحوارات، التي يحاول كلّ فريق، أن يرفع طائفته لتتخطى إنتمائه إلى الدولة، والتي يحلم بها بحسب معايير طائفته.
وبطبيعة الحال، فإنّ الإنتماء حاجة لكلّ فرد، ويأتي هذا الإنتماء وفقاً لعدّة مجالات،
المعتقد، الدين، اللون… في لبنان، يتغلغل الفرد في ثنايا هذا الإنتماء، ليلتصق كلياً بالآخر الذي يشبهه، فيصل هذا الالتحام إلى حدّ الإنغلاق والتعصّب.
فتنتقل ضمائر : نحن/ هم من قواعد اللغة العربية، إلى عيون الفرد الطائفي، ليصير «هم» الأعداء و«نحن» المكان الآمن للفرد. ويتحوّل الإختلاف الى عبء وخلاف تتمدّد مظاهرة الى كلّ تفاصيل الحياة اليومية، وقد قالها يوماً زياد الرحباني «حتى بالبرغل في طائفية»
وتحت هذه الحاجة إلى الإنتماء المغلق، ننسى أنّ الإنتماء إلى الإنسان ككلّ هو من الأرقى والأسمى.
أين ننشأ؟
لكن، ماذا ننتظر من اللبنانيين الذين يعيشون تحت مظلّة السلطة التي ترسم ملامح كلّ مجموعة بحسب مصالحها؟
نحتاج إلى أن ننتمي.. هذا صحيح، إنّما في لبنان ألّه الشعب هذه الفكرة وحاصرها بالجماعة. بالتالي، فقد بات موضوع الإنتماء في الحالة اللبنانية، يستوجب تفكير متعدّد الاختصاصات العلمية، والعلوم الإنسانية كالتاريخ وغيرها..
إذ إنّه منذ البداية، تشوب العبارات والتعاريف ترسيمات إختزالية معمّمة من قبل أطراف الحرب اللبنانية، ما يطرح السؤال التالي: ما هي الطائفة الدينية بصورة عامة؟
بحسب العالم «ماكس ويبر»، فإنّ هناك نوعان من الإنتماء: الطائفي والإجتماعي. إلى ذلك، فإنّ عصر المجتمع يلحق عصر الطائفة، فتستغلّ السلطة هذه الظاهرة، وتفرد أيديولوجيات مختلفة تتلاعب بالطوائف الصغيرة، إنطلاقاً من خصائصها الجغرافية، العرقية والثقافية…
تباعاً، إنّ لبنان يتحوّل إلى مشروع وطن لم يتحقّق بعد، نسبة إلى هذا الواقع السياسي المفروض عليه منذ الإستقلال على الرغم من كلّ القوانين والإتفاقيات التي حاولت عبثاً معالجة داء الطائفية. فما يقوله اليوم السياسيون والمسؤولون، ليس أكثر ممّا كان يقوله أسلافهم في الثلاثنيات. إذاً، العلّة لا تكمن بالنصوص ولا الخطابات السياسية المزيّفة.
مظاهر الطائفية المنتشرة
من ناحية أخرى، ثبّتت الدولة الطائفية في لبنان هذه الظاهرة، وعملت على تغذيتها حتى تسلّلت إلى المدارس، الكتب، الجامعات، عقول الشباب.. وترجمت في النظريات العنصرية والتمييزية على تصوير الناس والمجتمع على إيقاع الأضداد المتعارضة في لبنان: مسيحي/ مسلم، شرقية/ غربية، 14/8، سني/ شيعي، ماروني أورثوذكسي، ليغرّد البعض منها خارج السرب، فيعلو صدى الإتهامات: عميل/ وطني.
في يومنا هذا، أصبح التعصّب العقائدي أكان على صعيد طائفي أو سياسي، ينحدر إلى مستوى اتهام كل من هو مختلف بالعمالة (الإسرائيلية، السورية، الإيرانية…)
من هو المختلف؟
المختلف هو الذي تحدّده العائلة في مراحل النمو الأولى، وترتسم ملامحه من خلال الصفات التي يطلقها اللبناني على اللبناني الآخر..
«بتلبقلن الرئاسة خيي، بيعرفوا يحكو مع الأجانب/ بخلفو كتير، بالشرقية عندك كل شقفة بدا حلم الله/ بيحكو بالشرف وعندهم زواج المتعة، بدن هالهمج يحكمونا/ معلقين بأمن الحنون»… والكثير من العبارات الشعبية والصور النمطية والأفكار المسبقة التي نعرفها تحت عنوان في «المجالس أمانتها» وعند اللقاء مع الآخر المختلف إما تختبيء تحت ستار اللياقة المزيفة، أو تجنّب التواصل. ولكنّها المرآة الحقيقية للخوف من الآخر المتجذّر في نفوس اللبنانيين.
الخوف والتربية الطائفية
التربية عبء خطير على الطفولة إذا تحولت الى أرض خصبة لزرع الأحكام المسبقة على الآخر، فتتكون الأحاسيس، على الخوف من المجهول، من إنسان ما، سلطة ما، وأشكال أخرى مختلفة غريبة.. فتتحول التربية الى نموذج فوقي عنصري، مشحون بالعاطفة والنفور من الآخر، فيصبح الخطر الأكبر: تحويل الإحساس إلى فعل عدائي.
هكذا نتربّى على الطائفية، ليسيطر الخوف على الذات.
الحلّ المستحيل؟
وإذا أردنا التخلّص من هذ الخوف المستعمر في النفوس، لا بدّ من العودة إلى التاريخ وتحرير الذاكرة من كلّ المشاهد العالقة في الحرب. فالطائفية الظاهرة اليوم في حياتنا اليومية الإجتماعية، تفسّرها «تروما الحرب» أو «فكرة الخوف من الإلغاء».
وللأسف، لا يثق اللبنانيون اليوم في دولتهم ولا ببعضهم، والدولة التي لا تترك فرصة إلّا وتعمل من خلالها إلى تحريك الوحش الطائفي داخل كلّ لبناني.
بالتالي، يحمل المواطن اللبناني في داخله فكرة وراثية عدائية تجاه الآخر، وينتظر اللحظة التي يستطيع فيها الانطلاق من الفكرة إلى العملِ العدائي، وهذا ما يظهر بكل جلاء في الفظاعات التي نراها ونسمع بها يوميا في السجالات أو المواجهات العنيفة لفظياً وعملياً في كلّ مناسبة.
والحلّ، لا يكمن إلّا باتجاه عملية التكنيس والتعزيل من ذكريات الحرب، والتوجّه إلى المصالحة مع الآخر، حتى تتلاشى الصدمات والجروح القديمة.
فكم عظيم أن يقدم أحد من المسؤولين الكبار، خطوة كخطوة قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني، وهو يصافح محمد علي آغا في سجنه غافراً له خطيئة محاولة الإعتداء على حياته. و في هذا السبيل هل يكون علاج الخوف المصافحة والمصالحة الحقيقية وإعادة بناء الثقة بين الأطراف اللبنانية علنا نرتاح..؟