تتسارع التقارير الدورية التي تدق ناقوس الخطر عن تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي، وتحذر من خطورة استمرارية إبقاء الحال على حاله لما في ذلك من تداعيات كارثية على المستوى الإنساني والصحي والإجتماعي. أي أنّ بنية المجتمع آيلة الى التفكّك. معدلات الجريمة الى إزدياد، وكذلك التسرّب المدرسي. وحصر الطبابة والإستشفاء على المواطنين القادرين دون سواهم، أي أنّ العلاج أصبح ترفاً لا حاجة أساسية. والأرقام وإن كانت لا تحاكي الواقع بشكل دقيق إلّا أنّها تضع الإصبع على الجرح. فمن بعد أيام قليلة من تقرير البنك الدولي الذي أُعلن فيه أنّ 44% من اللبنانيين والمقيمين هم فقراء، أتت أرقام إدارة الإحصاء المركزي لتنبّه إلى أنَّ معدلات التضخم لا تزال تأخذ منحاها التصاعدي بالرغم من الإستقرار في سعرالصرف.
فقد ارتفعت الأسعار تراكمياً بنسبة 5853% منذ العام 2019 ولغاية نيسان من العام الحالي، أي أنّها زادت 58 مرة ونصف المرة عما كانت عليه في العام 2019. وبتشريح الزيادة رصدت إدارة الإحصاء المركزي زيادة بأسعار السلع الغذائية وصل إلى حدود 237 مرة. أمّا النقل فقد ارتفعت كلفته 119 مرة. والألبسة والأحذية زادت 167 مرة. الفنادق والمطاعم ارتفعت بمعدل 294 مرة.
تتأثر أسعار السلع والخدمات بعوامل داخلية وخارجية. وبتركيبة السوق اللبناني القائم على إستيراد أدنى الحاجيات وأقصاها من بذور البصل وصولاً الى السيارات. فنرى أنّ نسب التضخّم العالمية تنعكس حكماً وحتماً على مأكلنا وملبسنا ومشربنا وعلى الخدمات التي نحصل عليها. فمثلاً أي مشكلة تواجه سلاسل التوريد كصعوبة الشحن والإرتفاع بأسعارها والإرتفاع بأسعار التأمين عليها، كما حصل مع بداية هجمات الحوثيين في البحر الأحمر على بواخر الشحن، نتيجة العدوان الإسرائيلي على غزة والجنوب اللبناني، بسببها ازدادت الأسعار بين 8 و 11% ولكن في لبنان ونتيجة لغياب الرقابة وصلت الزيادة على العديد من السلع إلى قرابة الـ 25%. هذه عيّنة قريبة، فماذا عن أسعار المحروقات والمواد الأولية وماذا عن زيادة معدلات الفائدة من البنوك المركزية الأساسية؟ كلها عوامل تنعكس على سعر الإبرة في لبنان.
طبيعة إحتكارية ظاهرة بأمّ العين، قلة من الشركات التي تقبض على سوق البيع بالجملة أو بيع التجزئة في لبنان، وهي كارتيلات تبسط سيطرتها من المجلس النيابي مروراً بالحكومة. لنرى أسواق تغلي بالأسعار وتتغذى على الإستيراد لتبقى الإمتيازات على حالها. وعلى سبيل المثال البسيط فإنّ لبنان يستورد بحسب بيانات الجمارك حوالي 2 مليار دولار، مواد غذائية أساسية.
بحسب الخبير الإقتصادي البروفيسور جاسم عجاقة، تتميز السوق اللبنانية بأنّها سوق إحتكارية بامتياز، إذ أنّ في لبنان غالباً ما ترتفع الأسعار ولا تتراجع إلّا نادراً مما لا يعني بأنّها لا تتمتع بالليونة وهي إحدى سمات الأسواق الإحتكارية. وبالتزامن مع هيمنة الإحتكار على الأسواق اللبنانية ، حيث تهيمن فئة من التجار دون سواهم على السوق ويتحكمون بالأسعار، ويذهبون في سياستهم الإحتكارية بعيداً حيث ينشئون تجمعات لهم تحت مسميات عدة تجمع نقابة أو ما شابه. وهذا ما يؤدي إلى ضرب الفكرة التالية أنّ النظام الإقتصادي في لبنان هو نظام إقتصادي حرّ. إذ أنّ هذه الفئة القليلة هي أحد المتحكمين بالسوق من التوزيع إلى المنتجات وصولاً الى الأسعار.
وقد اعتمدت هذا المجموعات وغيرها، بعد حالة الفوضى التي عمّت البلاد نتيجة تخلف لبنان عن سداد ديونه في آذار 2020. ودخول الليرة دوامة التراجع مقابل الدولار، مبدأ الـ Replacement Cost ومن ثم الـ Expected Cost. على أساس الحفاظ على رأس مالهم من الذوبان وما إلى ذلك من حجج وإختراعات، صبّت جميعها في دورة إرتفاع أسعار جميع السلع بحيث لم يستفِد اللبنانيين لا من الدعم الذي أعطي لهذه الشركات لتأمين السلع بأسعار معقولة، ولا من ذريعة الدولرة التي وجدت على أساس الحدّ من التلاعب من الأسعار وهذا ما لم يحصل إذ أنّ بقية الأسعار في منحاها التصاعدي.
وعن تأثير الحرب الروسية الاوكرانية على ارتفاع الأسعار، فإنّ هذه الواقعة قد حصلت في الأشهر الأولى من العام 2022، ومن ثم عاودت الإنخفاض، وهذا ما أكد عليه مؤشر الفاو بين نيسان 2022 ونيسان 2023. وهي المدة عينها التي كانت أسعار المواد الغذائية في لبنان تحافظ على معدلاتها المرتفعة.
وإلى العدوان الإسرائيلي على غزة والجنوب اللبناني وهجوم الحوثيين على بواخر الشحن في البحر الأحمر، فلتلك الأعمال تداعيات تؤثرعلى سعر المنتج في الاسواق. إلّا أنّ في لبنان دائماً التأثير مضاعف، نتيجة للأسباب التي ذكرناها آنفاً، إضافة إلى غياب الرقابة الرادعة لأي عملية تلاعب في الأسعار.
ووفقاً لعجاقة، فمن واجب الحكومة اللبنانية رسم السياسات التي تشجع على الأمان الإقتصادي والأمن الغذائي. من خلال الحوافز التي تقدّمها لتشجع على بناء المصانع وتخلق فرص العمل ناهيك عن السياسات الضريبية المدروسة. مما يؤدي الى محاربة آفة البطالة والفقر معاً. فتحصين البيت الداخلي من خطر تعرض أمننا الغذائي للخطر بات حاجة ملحة وهذا الأمر يتمّ عبر خطوات عدة كتقديم الأراضي لزرعها للمزارعين أو حتى تقديم الأراضي العائدة للدولة لبناء مصنع أو ما شابه. ولكن للأسف هذا كله غير مدرج أبداً في التخطيط.
ويتخوَّف عجاقة من أن تهدّد الفوضى الإقتصادية القائمة حاليًا الوجود اللبناني بكل أبعاده الإجتماعية والديموغرافية والإقتصادية. فالتضخم اليوم هو ككتلة سرطانية تكبر وتنتشر وتضرب مفاصل ومقومات العيش. ناهيك عن ضرر الإقتصاد النقدي وما سيسببه مع الوقت من خطر على السمعة المالية للدولة اللبنانية.