حيثُ كلّ شيء «déjà vu».

حيثُ كلّ شيء «déjà vu».

  • ١٧ تشرين الأول ٢٠٢٤
  • جورج طوق

منهم من رحل ولم يبق من أسطورته إلّا ومضات حُلم، ومنهم من أُبعد إلى المنافي، ولم يعد منه إلّا الزهادة. هناك، من القادة، من أُقفلت عليه القضبان، وخرج بلا قيادة ولا من يقود. وهناك، أيضًا، من سقط، في مناعة التحصين، عن عرش المكابرة والثبات إلى عرش المكابدة والنجاة.

منهم من رحل ولم يبق من أسطورته إلّا ومضات حُلم، ومنهم من أُبعد إلى المنافي، ولم يعد منه إلّا الزهادة. هناك، من القادة، من أُقفلت عليه القضبان، وخرج بلا قيادة ولا من يقود. وهناك، أيضًا، من سقط، في مناعة التحصين، عن عرش المكابرة والثبات إلى عرش المكابدة والنجاة.

ليست المرّة الأولى التي تُقصف فيها أحياؤنا وأحبابنا وذكرياتنا وأحلامنا، ونحن مُصَبّرون وصابرون. ليس انهيار سقف فوق رؤوسنا دخيلًا على سيرتنا البائسة، ولا اختراق كسرات الزجاج أجسادنا هفوةً في مسيرتنا اليائسة. ليست أوّل مرّة يُشبع  غريبٌ متمكّنٌ ساديّته بدموعنا ودمائنا، أو يجرّنا قريبٌ ميليشياويّ إلى مقتلةٍ مازوشيّة، لا قدرة ولا ناقة ولا رغبة لنا، فيها، ولا جمل. ليس تغييب الجيش عن تماس الدفاع سابقةً، في سواد أيّامنا، ولا قُصور السُلطة بالتماس النِفاع غَرابةً، في ضياء ظروفنا وضيقها. ليست أوّل مرّة نُهجّر من ضِيعنا  بدَهمِ أخطارٍ بلا إخطار. لا جديد على عيوننا وذاكرتنا. كلّ شيءٍ هُنا "déjà vu"، لا سيّما المآسي والأعطاب والعقم والآفاق المسدودة. وتيرةٌ سريعةٌ لإعاداتٍ بالعرض البطيء، وحلقةٌ تفاقميّةٌ مُفرغةٌ منقوعة ٌبالدموع والدماء ندور فيها، بلا هوادة، منذ أصبح لبنان كبيرًا. هُنا، حيث إعادة التاريخ هي الرياضة الوطنيّة الأكثر رواجًا، لبنـــــانُا هو، في اللعبة تلك، بطَل هذا الكوكب الدوّار.

«لعنة طائر الفينيق»
يُحكى أنّ بيروت دُمّرت، في الماضي البعيد، سبع مرّات، بغضبٍ طبيعيّ تارةً وأحقادٍ بَشريّة طورًا. في الماضي القريب، قصف حافظ الأسد المدينة في حرب المئة يوم، عام ١٩٧٨، ومناحيم بيغين في اجتياحه لها عام ١٩٨٢، وبعدهما جعجع وعون في جحيم التوحيد والإلغاء، في العام ١٩٩٠. أعاد العدوّ فعلته في حرب تموز عام ٢٠٠٦. وفي آب ٢٠٢٠، ألقت منظومة الحكم في بيروت، بقيادة السيّد الراحل، قنبلةَ النيترات فوق مراسيها، ففعلت ما فعلت في قناطرها وأحيائها وناسها. واليوم يرتكب نتنياهو، بحقّها، ما اعتاد ارتكابه بلا سقوفٍ ولا خطوطٍ ولا أفق. ستّةُ كوابيسَ طاحنةٌ عاشتها بيروت وسجّلتها ذاكرتي، وأنا ما زلت في منتصف العمر. ستّ إعاداتٍ لشريطٍ أسود في أقلّ من خمسة عقود. ونظرًا لمتوسط الحياة المتوقّع لي، خارج وفرة القتلة من حولنا، سأشهد، لا محالة، على أكثر من سبع بلاوى بكثير تُلمّ بهذا البلد المنحوس.
في الأسطورة الشعبيّة، ينهض طائر الفينيق، مرارًا، من تحت الرماد. نحن لم نستطِع نفض غبار الحرب الأهليّة عنّا، ولم نلتقط أنفاسنا بعد حقد حرب تمّوز، قبل قرابة عقدين، ولم ننهض، حتّى اليوم، من تحت رماد قنبلة النيترات وسمّيّة غيمة دخانها القرمزي، قبل أربعة أعوام، ناهيك عن مطحنة الحاضر الدائرة فوق ضلوعنا. في الواقع، يسقط الطير، مرّة نهائيّة، إمّا إلى فم طريدة وإمّا إلى أزل التراب.

«إعادة بلا إفادة»
إنّها من سخريات القدر، أن يدمن أناسٌ إعادة التاريخ إلى هذا الحدّ القاسي، ويغفلون الإفادة من دروسه. إعادة قاتلة، تلو أُخرى، بلا إفادة. ليست المرّة الأولى تنام فيها بِنى ميليشياويّة على حرير التَمكُّن والظَفَر وتستيقظ، في لعبة الكبار، على أشواك الخَور. ليست أوّل مرّة يسقط قائدٌ ملهمٌ لشريحة واسعةٍ في البلد الصغير إلى غياهب الحياة. منهم من رحل ولم يبقَ من أسطورته إلّا ومضات حُلم، ومنهم من أُبعد إلى المنافي، ولم يعُد منه إلّا الزهادة. هناك، من القادة، من أُقفلت عليه القضبان، وخرج بلا قيادة ولا من يقود. وهناك، أيضًا، من سقط، في مناعة التحصين، عن عرش المكابرة والثبات إلى عرش المكابدة والنجاة. فعسى أن يتلقّف أحدهم إفادة التاريخ، ويقوم الساسة بأقلّ الممكن في لعبة فنّ الممكن، ويوقن المكابرون أنّ السلاح المتسوَّل لا يُستلُّ في وجه لعبة الأمم، فننجو قبل أن تثبت لنا صحوة الواقع أنّ الطيور وأسرابها قد لا تنهض، هذه المرّة، من تحت الرماد.