يوميات مسؤول مطارد من إسرائيل
يوميات مسؤول مطارد من إسرائيل
يشعر بأنّه يُمسك العالم بإصبعين، يخشى أن يفلت، ويخشى أن يستمر. وفي ذروة هذا التمزّق، يطرح السؤال الذي يتردد في داخله منذ شهور، هل يستحق الأمر كل هذه المعاناة؟
من يراقب رجلاً من «حزب الله» اليوم، يظن للوهلة الأولى أنّه كتلة صلابة لا تهتز. لكن ما إن تنطفئ الشعارات التي تقال بالشارع أو على الملأ، حتى يظهر وجه آخر. وجه رجل يعيش بين ركام فكرة أثقلته، وركام حياة كاد يفقدها، ويمشي في ممر ضيق بين رغبة في المقاومة والثأر لاغتيال أمينه العام السابق، ورغبة أخرى في الحياة.
بالأمس، سقط هيثم الطبطبائي، الرجل الذي سمّاه الإسرائيلي «الرقم 2». اغتيال جديد في سلسلة طويلة باتت أشبه بلائحة طويلة لخسائر لا تُحصى. خسائر سئمت معظم الناس من تدوينها وعدّها.
الإغتيالات النوعية، تفجيرات «البيجر»، تهدّم القرى، ومنازل لم يعد بناؤها. آلاف العناصر الذين كانوا يتكئون على منازلهم كملاذ أخير، أصبحوا اليوم بلا سقف. بعضهم بلا معاش. بعضهم بلا يد أو قدم أو عين. وبعضهم بلا من كانوا يملأون البيت ضحكاً.
هو واحد منهم. يستيقظ كل فجر، ليس لأنّ لديه عملاً ينتظره، بل لأنّ الحياة باتت رفاهية لا تُمنح لأمثاله. يفتح عينيه قبل الشمس، يتحسس هواتفه الثلاثة، اثنان مقفلان دائماً، والثالث لا يتكلم فيه إلا جملة واحدة: «وصَلت». ثم ينهض ببطء كمن يخشى أن يوقظ خوفه الراقد قرب سريره.
ينظر من الشباك. ليس إلى السماء، بل إلى الإحتمالات. يضبط تفاصيل يومه كضابط يعد ذخيرة معنوية. طريق بديل، سيارة غير مألوفة، موعد لا يُقال بصوت مرتفع، وظل خلفه يتحقق منه مراراً.
في الإجتماعات، تبدو الصورة أكثر سريالية. كلهم قياديون، لكن لا أحد يثق بأي جهاز. يجلسون حول الطاولة بلا هواتف، بلا لابتوبات، بلا شاشات. الورقة والقلم وحدهما. كأنّهم عائدون إلى زمن المراسلات اليدوية، يكتب أحدهم جملة قصيرة، ويدفع الورقة نحو الآخر. لا صوت إلا احتكاك الأوراق. ولا قرار إلا ما يُدوَّن ويُحرق في النهاية.
هكذا تُدار قيادة التنظيم الذي كان يُقال عنه أنّه الأكثر تقدماً أمنياً في السنوات الماضية. وهكذا يجلس هو بينهم، يكتب كلمتين، يمسحهما، ثم يكتب ثلاثة غيرهما ويمسحهما أيضاً في النهاية.
يخرج من الإجتماع ليجد نفسه في سيارة مموهة أقرب إلى تابوت متحرك. لا يعرف كم طائرة تراقبه، أو الطريق الذي سيسلكه. أحياناً لا يعرفه هو نفسه إلا قبل دقائق. عليه أن يضع حياته رهن إرادة سائقه، فيما السائق نفسه قد يكون عميلاً.
في الطريق، يستعيد صور رفاقه. هذا خسر بيته، ذاك خسر إبنه، آخر يعيش على طرف إصطناعي، ورابع يجر قدمه كمن يجر عمره. ويسأل نفسه: هل المقاومة تعيد بيتاً؟ هل الثأر يعيد طرفاً مفقوداً؟ هل هناك ما يعيد وجهاً كان يملأ الغرفة؟
عند المساء، حين يعود إلى منزله السري الذي لا يعرفه إلا حفنة من الأشخاص، يرى طفله يركض نحوه كما لو أنّه أب طبيعي. أب يعيش مثل الآخرين. أب يخرج صباحاً ويعود مساءً. لكن الحقيقة أبعد بكثير. هو رجل يعيش في الفراغ بين فكرة ترفض أن تموت، وحياة ترفض أن تُعاش بهذه الطريقة.
زوجته لا تسأله «إلى متى؟» تخشى السؤال. وهو يخشى أن يسمعه. لّأن كل طرق الإجابة تقود إلى سؤال أكبر: هل ما يعيشه الآن خيار أم قدر؟
في الليل، يفتح هاتفاً دون إنترنت، ويقلّب الصور بداخله. رفيق مريض على كرسي، منزل تحوّل إلى هباء، جنازة بلا أصوات، طفل يسأل أين أبي ولا أحد يجيبه. تمر أصابعه فوق الصور كمن يمر فوق جروح قديمة لم تُشفَ. في داخله يشتعل صوتان متناقضان. الأول يقول إن الثأر واستكمال الجهاد طريق العودة إلى الذات. والثاني يقول إن ما تبقى من حياة أكبر من شعارات مثالية موهومة لقتال اسرائيل.
هو لا يريد أن يخون الفكرة، لكنه لا يستطيع أن يتجاهل الحقيقة. الفكرة تزداد ثقلاً.. والناس من حوله يزدادون خسارة. يجرؤ أن يسأل نفسه أحياناً: بعد كل ما جرى، أي مجنون يحارب إسرائيل بعد؟
في لحظات كهذه، يبدو الحزب نفسه كأنّه رجل فقد جزءاً من جسده، ويحاول أن يمشي كما لو أنّ شيئاً لم يحدث. يحاول أن يشبه صلابته السابقة، لكن الطريق تغير، والناس تغيروا، والأرض تغيرت. لم يعد «حزب الله» هو ذاك الكتلة المتماسكة التي عرفها في بداياته. بات جسماً مشلّعاً لا يعرف ما العمل وكيفية النجاة.
وهو، في قلب هذا الواقع، يشعر بأنه يُمسك العالم بإصبعين، يخشى أن يفلت، ويخشى أن يستمر.
وفي ذروة هذا التمزق، يطرح السؤال الذي يتردد داخله منذ شهور، من دون أن يجرؤ على نطقه بصوت مسموع: هل يستحق الأمر كل هذه المعاناة؟ هل يستحق كل هذا الخوف، وهذه الخسارة، وهذا الثمن الذي يدفعه الجميع؟
لا هو يعرف الجواب ولا أحد غيره. وربما لن يعش طويلاً ليعرفه حتى.

