رحلة مرفأ بيروت بين ازدهار التاريخ وتحديات الجغرافيا السياسية

رحلة مرفأ بيروت بين ازدهار التاريخ وتحديات الجغرافيا السياسية

  • ٠٣ آب ٢٠٢٤
  • غادة حدّاد

المرفأ هو شريان لبنان الاقتصادي، خاصة وأنّ 80 في المئة من الإستهلاك المحلي قائم على الإستيراد، تاريخياً، عزّز مكانة بيروت ولبنان في التجارة، وجعل من العاصمة، مدينة عالمية تربط الشرق بالغرب. قوته وازدهاره، كما ضعفه وتراجعه كانا بقرار سياسيّ.

مرفأ بيروت، واحد من أقدم المرافئ على البحر الأبيض المتوسط، واعتبر البوابة التجارية منذ العصور القديمة، وتحوّل إلى مركز حيوي للتبادل التجاري، ولعب دوراً رئيسياً في نقل البضائع بين القارات، وكان محطة أساسية على طريق الحرير البحري الذي ربط آسيا بأوروبا، وهذا ما جعل من بيروت مركزاً تتقاطع فيه الحضارات. هذه العوامل أدت بطبيعة الحال إلى نهضة اقتصادية في لبنان، حيث كان المرفأ بوابة رئيسية لاستيراد وتصدير البضائع.

كان لبناء السفن والملاحة دور رئيسي في خلق نقلة نوعية في التجارة الدولية. بحسب وزير الاقتصاد اليوناني السابق يانيس فاروفاكيس، إذ أنّه بعد تطوّر صناعة بناء السفن في أوروبا، ومع استخدام البوصلة (التي كان الصينيون أوّل من اكتشفها)، ومع التحسينات العامة لوسائل النقل البحري، تمكن الملاحون الأوروبيون من اكتشاف ممرات بحرية جديدة حفّزت بدورها التجارة العالمية. ويقول في كتابه «الاقتصاد كما أشرحه لابنتي» أنّ هذا جعل من المنتجات كالصوف والحرير والتوابل والسيوف الفولاذية، منتجات ذات قيمة دولية، أي منتجات عالمية تتحدد قيمتها التبادلية دولياّ، وغدا التجار والمنتجون الذين يبيعون سلعاً كتلك في الأسواق الجديدة فاحشي الثراء.

من هنا ظهر إهتمام الدول وسعيها إلى بناء مرافئها، وتطويرها. بحسب الباحث سهيل منيمنة فإنّ أول إشارة لمرفأ بيروت تعود إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وظهرت ضمن «رسائل تل العمارنة»، التي ذكر فيها ملك بيروت «عمونيرا»، وذكر أيضاً أنّ الامبراطور الروماني أوغسطس قيصر رمم هذا المرفأ وبنى له سدّين على هيئة هلال على طرف كلّ واحد منهما برج، وربطهما بسلسلة حديدية. وفي العصر الروماني أصبح مركزاً للأسطول العربي الأول. 

شهد المرفأ فترة إزدهار في العهد الأيوبي، وعاد الصليبيون لتنشيطه، ليلعب يومها دوراً أساسياً في التجارة بين الشرق والغرب. وخلال الفترة العثمانية تمّ تجهيز المرفأ عسكرياً وتجارياً، ليتراجع في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني. وعاد ليزدهر في عهد الأمير بشير الثاني الكبير. بدأ المرفأ يأخذ مكانة رئيسية بين الموانئ اللبنانية عام 1832، مع دخول إبراهيم باشا المصري إلى بيروت، وانشاء حوض إلى جانب مبنى الجمرك عام 1864، لتتحوّل بيروت آنذاك إلى مركز للبضائع الأوروبية والأميركية، وكون «طريق الملاحين» تمتد على الشاطئ، باتت بيروت مركزاً لسكن الأوروبيين، خاصة التجار منهم.

عام 1887، أمر الباب العالي في إسطنبول بمنح امتياز إنشاء المرفأ للشركة الفرنسية ممثّلة بيوسف أفندي المطران، فبدأ تشيّده عام 1889، واستمر حتى عام 1893، ثم بنيّ الحوض الثاني عام 1934، وبعدها أعلن عن الشركة المستثمرة للمرفأ، شركةً وطنية وتحت وصاية الحكومة اللبنانية عام 1960. أما الحوض الثالث فبني عام 1962، وفي منتصف الستينيات بدأ العمل على الحوضين الرابع والخامس.

بعد تقاسم مناطق النفوذ بين الإنتداب الفرنسي والبريطاني في الشرق الأوسط، كانت فلسطين من حصة الإنكليز، وبالتالي مرفأ حيفا، الذي كان يعتبر الأكثر قوة بين المرافئ على البحر الأبيض المتوسط. ولقد أسف أستاذ تاريخ القانون في جامعة ليون بول هوفلان في تقرير له بعنوان «ما قيمة سورية؟» عام 1919، على خسارة مرفأ حيفا الواقع في أراضي الانتداب البريطاني، مثله مثل مرفأ عكا، على اعتباره الأكثر استعداداً للتطوير، وهو مصبّ خط سكة حديد حوران التي ينقل منها القمح وبعض المنتجات الدمشقية. ويذكر المورخ فواز طرابلسي في كتابه «سايكس - بيكو - بلفور ما وراء الخرائط» بأنّ هوفلان «عيّن محور اسكندرون حلب على أنّه المنطقة المركزية للنمو الاقتصادي في سورية، حيث تشكل حلب عقدة مواصلات بحرية وبرية ونهرية وطرق تجارية، وهي إلى ذلك بلد حرف وصنائع وتجار أثروا خلال الحرب، وأراضٍ خصبة ومحاصيل زراعية رائعة»، ويورد التقرير أنّ «المستقبل يبتسم لحلب». ولم يولي التقرير أهمية كبيرة لمرفأ طرابلس، الذي كان متصل مع مدينة حمص بواسطة خط سكة حديد منذ عام 1911، «ويؤثر عليه  مرفأ بيروت الذي نما بسرعة، ومعه المدينة بعد فتح طريق بيروت دمشق، مع أنّه لا يُتوقع لمرفأ بيروت أن يصير الثغر الكبير لسورية على المتوسط، لاقتصار زبائنه على البقاع وغوطة دمشق».

يشير طرابلسي إلى أنّه خلال الفترة العثمانية، كانت فرنسا أكبر المستثمرين الأوروبيين في السلطنة العثمانية «كانت تقدّر استثماراتها في سورية ولبنان بمئتي مليون فرانك، تشرف عليها شبكة مالية تضمّ فرع البنك العثماني الفرنسي، الذي يعمل باسم «بنك سورية ولبنان»،  ومنها الاستثمارات الفرنسية في تمويل اقتصاد الحرير والمواصلات: في مرفأ بيروت وطريق العربات بين بيروت ودمشق وسكة حديد «دمشق حماه ومتفرعاتها»، فيما «امتدت الإمبراطورية البريطانية الاقتصادية في المنطقة من قناة السويس، إلى نفط فارس والعراق عبر خطوط سكك الحديد وشركات الملاحة النهرية والبحرية، مروراً بقطن مصر ومصارف مصر وفوسفات البحر الميت في فلسطين وشرقي الأردن».

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، لم تنتفِ حاجة أوروبا إلى المشرق العربي، كمورّد للخام والمنتجات الزراعية والحبوب. وكان من المطلوب إبقاء أسواق المنطقة مفتوحة امام السلع الأوروبية، من أقمشة ومنسوجات ومحروقات ومعادن وآلات ومنتجات صناعية، وأن تتسع طاقتها الإستهلاكية، «وكانت تتولى حركة المبادلات هذه شركات نقل وتأمين بحرية وبرية وجوية فرنسية وبريطانية. وقد استدعى ذلك السيطرة على التجارة الخارجية للبلدان المعنية»، بحسب طرابلسي، وفي نهاية الحرب «بات ميناء البصرة مكًّرساً لبريطانيا بما هو محطة رئيسية إلى الخليج والهند. على الساحل السوري، خسرت بريطانيا ميناء إسكندرون، وكسبت في المقابل كامل الساحل الفلسطيني، وصولاً إلى قناة السويس عبر غزة وسيناء. وقد انتزعت بريطانيا من فرنسا مرفأ حيفا الحيوي، الذي كان يصرِّف قسماً كبيراً من صادرات سورية، إضافة إلى كونه منفذاً للعراق على المتوسط، ولن تستطيع فرنسا التعويض عنه بواسطة مرفأ بيروت تعويضاً كاملاً، خصوصاً أنّ المنافسة بينهما ستنتهي بتفوق حيفا على بيروت في منتصف الثلاثينيات».

هذا المكسب البريطاني سرعان ما انعكس سلباً على مرفأ حيفا والمنطقة بشكلٍ عام. في وقت استثمر الفرنسيون في تطوير مرفأ بيروت، ليكون البوابة الرئيسية للتجارة مع سوريا ولبنان، كما طوروا قدرته وكفاءته ليصبح أكثر جذباً للتجار والمستثمرين مقارنة مع مرفأ حيفا، كما أنّ الإعلان عن قيام «دولة إسرائيل»، غيّر الديناميكيات السياسية والاقتصادية في المنطقة.  لقد أدى إحتلال فلسطين إلى حروبٍ لم تنتهِ حتى اليوم، وأثرت منذ عام 1948 على قوة مرفأ حيفا، ففي بداية الاحتلال، شهد المرفأ عمليات عسكرية، ولاحقاً بات تحت السيطرة الإسرئيلية، فأُغلقت العديد من الطرق التجارية التقليدية، وتراجع إعتماد الدول العربية على مرفأ حيفا ، ونقل الثقل التجاري إلى مرفأ بيروت. 

خلال مرحلة الخمسينات والستينات من القرن العشرين، شهد لبنان نمواً اقتصادياً كبيراً، وجذب هذا النمو الاستثمارات الأجنبية والتجارة. وكانت الفترة الشهابية محورية في تطوير المرفأ وتحسين قدراته واستيعابه للنمو التجاري المتزايد، ونفذت مشاريع لتحسين مرافق المرفأ، بما في ذلك توسيع الأرصفة وتحسين معدات الشحن والتفريغ. وساهمت هذه التحسينات في زيادة القدرة الاستيعابية للمرفأ وتحسين كفاءته. كما ركزت سياسات شهاب على تحسين شبكات النقل والاتصالات المرتبطة بالمرفأ، مما عزّز من قدرته على خدمة الاقتصاد الوطني.

إلى جانب التطويرات التقنية، عمل شهاب على تعزيز دور مرفأ بيروت كمركز رئيسي للتجارة والاستثمار في الشرق الأوسط، ساعياً إلى خلق بيئة مشجعة للاستثمار والتجارة، وترافق ذلك مع تشجيعه القطاعات الصناعية المرتبطة بالمرفأ.

أما اليوم، وبعد الكارثة التي شهدها المرفأ عام 2020، لم يسترجع قدرته على العمل، بقرار سياسيّ، رغم الحاجة الاقتصادية إليه، كما تظهر جليةً اللامبالاة في تطوير جميع مرافئ لبنان، التي إن حدث وازدهرت هل ستكون على يد إحتلال جديد، أم على يد فؤاد شهاب جديد.