هل ستمنع إسرائيل زيارة البابا إلى لبنان؟
هل ستمنع إسرائيل زيارة البابا إلى لبنان؟
هل سيمنع وجود البابا إسرائيل فعلاً من بدء عملياتها؟ أم أنّ الحسابات العميقة التي تحكم العقل الإسرائيلي تجعل من وجود رأس الكنيسة الكاثوليكية عاملاً إضافياً لاجتراح لحظة «إنتقام رمزي» من التاريخ؟
زيارة البابا إلى لبنان لم تأتِ من فراغ. فكل ما جرى في الكواليس خلال الأسابيع الماضية يؤكد أن الطبقة السياسية اللبنانية دفعت بكل قوتها لإنجاح هذه الزيارة، ليس بدافع ديني أو وطني، بل لأنها كانت الوسيلة الأخيرة لتأخير الضربة التي تتحدث عنها العواصم الكبرى. الجميع كان يعرف أن الثلاثين من تشرين الثاني هو الموعد المفصلي الذي حُدِّد سلفاً في النقاشات الدولية، الموعد الذي يمكن أن تبدأ فيه إسرائيل عملياتها الواسعة في لبنان، ولذلك جرى التعجيل بزيارة البابا كعامل ضغط أخير لإبعاد اللحظة الصفرية.
لكن السؤال الحقيقي الذي طُرح داخل غرف القرار؛ هل سيمنع وجود البابا إسرائيل فعلاً من بدء عملياتها؟ أم أنّ الحسابات العميقة التي تحكم العقل الإسرائيلي تجعل من وجود رأس الكنيسة الكاثوليكية عاملاً إضافياً لاجتراح لحظة «إنتقام رمزي» من التاريخ؟
لفهم هذا السؤال، يجب العودة إلى الجذور. فالخصومة الكبرى في الوعي اليهودي لم تكن يوماً مع العرب فقط. العداء التاريخي الأكثر عمقاً هو ذاك الذي حملته الذاكرة اليهودية تجاه الرومان. فالإمبراطورية الرومانية، بقيادة الإمبراطور تيطس، دمّرت إسرائيل القديمة، وهدمت الهيكل الثاني، وشردت الجماعات اليهودية في لحظة شكّلت إحدى أقسى محطات التاريخ القديم. وبرغم مرور نحو ألفي عام، بقي هذا الجرح جزءاً حيّاً من الوعي السياسي الإسرائيلي الحديث.
هذا البعد التاريخي ليس تفصيلاً. فالكثير من خطابات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعود إلى تلك اللحظة، إذ كثر حديثه عن «الرومان الذين حاولوا سحق الشعب اليهودي»، وعن «المعركة الوجودية التي خاضها اليهود ضد الإمبراطورية التي أرادت محوهم». وفي كتاباته أيضاً، يظهر هذا الإستحضار وكأنّه جزء من روايته عن البقاء رغم محاولات الإبادة القديمة.
وحين يُطرح سؤال: من يمثّل اليوم الوريث الرمزي للإمبراطورية الرومانية؟ تأتي الإجابة بوضوح في المخيل الغربي: الفاتيكان. فالبابا يُنظر إليه باعتباره الامتداد الروحي لتاريخ روما، والشخصية التي تحمل رمزياً إرثاً سياسياً وثقافياً امتد عبر قرون طويلة.
إنطلاقاً من هذا السياق، بدأ السؤال السياسي يأخذ منحى مختلفاً: هل ستتعاطى إسرائيل مع زيارة البابا للبنان كحدث يقيّدها عسكرياً ويؤخر موعد عمليتها؟ أم قد ترى في وجود البابا فرصة لمخاطبة ذلك الإرث التاريخي الذي تعتبره جزءاً من الصراع الممتد منذ أيام روما القديمة؟ بعض المصادر العربية الرفيعة أشارت إلى أن تل أبيب قد لا تنظر إلى الزيارة فقط كعامل تعطيل، بل كحالة تحمل معنى رمزياً شديد الحساسية، إذ تمثّل – في الوعي التاريخي «الواجهة المعاصرة لروما التي دمّرت إسرائيل القديمة»
في المقابل، كانت الطبقة السياسية اللبنانية تتحرك على عجل. الهدف كان واضحاً؛ تجميد العدّ العكسي وتأجيل اليوم الذي يتحول فيه لبنان إلى ساحة مواجهة مفتوحة. الرهان كان أنّ وجود البابا في البلاد يعقّد القرار الإسرائيلي، ويجعل فتح جبهة واسعة خطوة مكلفة ديبلوماسياً وإعلامياً، بما يمنح لبنان أياماً إضافية قبل الإنفجار المحتمل.
غير أنّ القرار الفعلي لا يُصنع في بيروت. فإسرائيل لا تبني حساباتها على الرمزية وحدها، بل على ميزان القوى ومقتضيات المواجهة. والسؤال الذي يطرحه الديبلوماسيون اليوم هو نفسه؛ هل ستتراجع إسرائيل فعلاً عن موعدها المحدد بسبب الزيارة البابوية، أم أنّ العملية قد تنطلق رغم كل الحسابات البروتوكولية والدينية؟
وهنا يصبح السؤال الأعمق أكثر إلحاحاً؛ إذا كانت إسرائيل ترى في وجود البابا في لبنان إمتداداً رمزياً لروما القديمة التي دمّرت «إسرائيل القديمة»، فهل ستتردد فعلاً في ضرب موعدها المحدد، أم أنّ الحسّ التاريخي قد يدفعها إلى تجاهل اللحظة البروتوكولية والمضيّ قدماً؟ وهل سيكون ضغط الإعلام العالمي، بكل ثقله ومراقبته وأثره، كافياً لمنع إسرائيل من تحويل هذه الزيارة إلى فصل جديد من محاولات «الإنتقام الرمزي» التي حلم بها نتنياهو مراراً في خطابه السياسي؟

