هل انتهت «الشيعية السياسية»؟
هل انتهت «الشيعية السياسية»؟
علّمنا التاريخ اللبناني، إن مصيبة طائفة في لبنان هي مكسب لبقية الطوائف.
في 15 أيلول 1982، جلس المئات ينتحبون على طريق إنطلياس - بكفيا وبضعة طرقات أخرى. كان الحدث الجلل هو اغتيال رئيس الجمهورية اللبنانية المنتخب حديثاً بشير الجميّل قبل يوم واحد. كُثر لم يصدقوا أنّ هذا الرجل القوي الديناميكي يمكن أن تقتله عبوة ناسفة زرعت في مكتب حزبي كان يزوره في الأشرفية. تحوّل الحزن إلى تفجع وهستيريا، وتبعه، بعد أيام، قبول بالقدر والواقع. ارتقى بشير شهيداً.
لم يمثل موت بشير مجرد موت لشخص أحبه مجتمعه، بل مثّل، في الواقع، الإعلان العملي عن بداية نهاية مرحلة «المارونية السياسية». فمنذ تأسيس لبنان بشكله الحالي عام 1920، ومروراً بالاستقلال عام 1943 وما تبعه من أحداث أفضت إلى العام 1982، قاد الموارنة، بشكل غالب، لبنان. لم يكونوا وحدهم من يقبضون على الحياة السياسية وصناعة القرار والقطاع الخاص، بل كان معهم ثلة من بقية الطوائف أيضاً، تماماً كما «للشيعية السياسية» اليوم أتباع وحلفاء من بقية الطوائف، ولو كانوا هم من يحكمون القبضة على صناعة القرار في لبنان.
خطأ مجتمع بشير أنّه ربط كل آماله وتطلعاته ومشروعه بشخص، تماماً كما أخطأت «السنية السياسية» بربط آمالها ومصالحها بشخص رفيق الحريري في الفترة الممتدة من 1992 إلى عام 2005، و «الشيعية السياسية» بحسن نصرالله. الجماعات اللبنانية تتصرف على هذا المنوال، تربط كل مشروعها بشخص واحد، لكن سرعان ما يستشهد هذا الشخص فيضيع المشروع، ويصبح مجرد صفحة مطوية من التاريخ.
يمثل اغتيال نصرالله شيئاً من السياق اللبناني الذي لا ينفك يكرر نفسه. كل اغتيال لزعيم طائفة مستحكمة يودي بها إلى المزيد من التهلكة والوهن، وهو الأمر الذي يظهر بعد الاغتيال عادة. المرحلة التي تلت موت بشير، وحتى عام 1991، كانت مجرد ممانعة لخسارة الموارنة خاصة والمسيحيين عموماً للصدارة في البلاد. إنّ كل الحروب والانتفاضات التي خيضت في ثمانينيات القرن الماضي كانت محاولة لرفض عجلة التاريخ وحتمية خسارتهم للحرب بعد موت مشروعهم وأملهم؛ بشير الجميّل، وهو ما تجسد فعلياً باتفاق الطائف الذي أتى ليؤكد المؤكد بأنّ زمن «المارونية السياسية» قد انتهى.
ولأنّ مصيبة طائفة في لبنان هي مكسب لبقية الطوائف، تصدّر رفيق الحريري المشهد في التسعينيات، وأرسى ما عُرف اصطلاحاً بمرحلة «السنية السياسية». على المنوال نفسه، أدى اغتياله عام 2005، ومن ثم توقيع الفرقاء اللبنانيين «اتفاق الدوحة» عام 2008 إلى نهاية تلك المرحلة وبداية مرحلة «الشيعية السياسية».
خلال هذه المرحلة، بات «السيّد» سيّداً على لبنان وله الصدارة فيه. استحكم بصناعة القرار في الدولة وزاد نفوذه وسطوته إلى حدٍ جعل من دويلته الخاصة أقوى من الدولة اللبنانية. تحوّل إلى الممثل الأهم «للشيعية السياسية» ورمز تسيّدها على لبنان، فيما سيضفي موته الآن المزيد من مبررات التغيير القادم بهوية متصدري الحياة السياسية والنظام السياسي اللبناني.
رُبطت مرحلة «الشيعية السياسية» بشخص، وستنتهي مع نهاية هذا الشخص. ما صحّ على الموارنة والسنة سيصحّ على الشيعة. عجلة التاريخ اللبناني وصراع طوائفه «الأزلي» لا تشي إلا بتلك الحقيقة.
بعد حين، عندما ينقشع المشهد ويختفي غبار المعركة العسكرية الجارية الآن، سيُمانع أرباب «الشيعية السياسية» ومن معهم تغيير النظام السياسي، أو عقد تسوية جدية تعيد توزيع السلطات والصلاحيات الرسمية. وإن تعلمنا من التاريخ شيئاً، فهذه الممانعة ستشبه ممانعة الموارنة لاتفاق الطائف، وممانعة السنة لاتفاق الدوحة، لكن الأنظمة والتسويات غالباً ما تُقر رغم أنف المهزوم، وتصبح حقيقة تمثل التوازن القائم في عالم السياسة.
يبقى أنّ أزمتنا الحقيقية ليست تقاتل الطوائف بين بعضها البعض، والتي هي حقيقة ثابتة في التاريخ اللبناني الحديث منه والقديم كذلك، بل هي ربط الجمهور اللبناني، من مختلف الطوائف، لحضوره ونفوذه وقدراته وآماله بشخص واحد، ما يجعل منها كلها في مهب الريح إن أصاب الشخص القائد مقتلاً.
بعد نهاية المعركة، ولملمة الجراح وكفكفة الدموع وانتهاء الهستيريا الشعبية على فقدان حسن نصرالله، وحين يتوقف إطلاق النار، ستُعقد تسوية جديدة في لبنان تعيد تشكيل السلطة وتقوي جماعة على أخرى، فتحكم لفترة ليعود ويُصيبها مقتل، فتترنح ويأتي من بعدها جماعة أخرى تتقدم على ما عداها من جماعات.
أزمتنا الحقيقية أنّنا كأفراد عامة وجماعات خاصة لا نتعلم الكثير من التاريخ، بل نكرره حد التطابق والتماثل مع من سبقنا، من دون حمل مشروع قابل للحياة والاستدامة وتخطي حضور القادة وتسيّدهم على السلطة والشعب وحتى المشروع.